بمناسبة موسم الإنفلونزا وانتشارها هذه الأيام في الكويت نتحدث عنها في أيام الماضي:
كان الكويتيون القدماء لا يعرفون هذه اللفظة العربية الأصل، والتي كانت معروفة عند العرب الأقدمين تقريباً بهذا الاسم، حين كان العرب يطلقون عليها عند دخول الخريف «أنف العنزة»، حيث يبتدئ الحيوانات، وعلى رأسها الماعز تفثي وينزل من أنفها سائل كالماء، وعندما انتقل العرب إلى أسبانيا حيث الأندلس، حيث كان الطب لا بأس به هناك، وكانوا يسجلون ذلك في كتبهم، ومن ثم يعالجون أنفسهم وحيواناتهم بالمشروبات الساخنة والقرفة «الدارسين».
ومن هنا أخذ الغرب بعد احتلالهم الأندلس، أسبانيا اليوم، كتب العلم والمعرفة والطب الموجودة عند الأندلسيين، ومن ضمنها المعلومات في علاج هذا المرض الموسمي النشلة (الزكام)، وأطلقوا عليها الاسم نفسه عند العرب «أنف العنزة»، وحورها إلى الاسم الشائع المعروف اليوم «أنفلونزا».
من هنا تعرفنا عليها وتلقفنا هذه التسمية من الغرب اسم هذا المرض «الأنفلونزا» والأدوية المضادة له ولعلاجه.
لكننا في الكويت والبلاد العربية الأخرى، خصوصاً الجزيرة العربية، وإن كانت هذه اللفظة نسبتها إلى الأقدمين أو لم تصل لنا، لكننا استنبطنا ألفاظاً أخرى لهذا المرض وهي:
النشلة، الزكام، العطاس، الرشح، الكحة، السخونة، الرعشة، الرجعة، البرد، الحمى. وكذلك استعمل الآن لفظان جديدان غير عربيين هما: كولد وأفلو. فتجد أمامك ثلاثة عشر تعريفاً أو اسماً لهذا المرض الذي كان يعم البلاد في دخول الأصفري وهو انتهاء فصل الصيف، ودخول الخريف، وكان الكويتيون القدماء يتقون هذا المرض وعدواه.
أولاً لأن غالبية السكان في مدينة الكويت كانت بيوتهم صغيرة ويستغلون السطح للنوم في الصيف للتبرد من شدة الحرارة، لكن عند دخول الخريف الأصفري تبدأ الأسر بالانتقال من السطوح الى النوم في الحوش، لانه «أذرى»، وأذرى في اللهجة الكويتية أوقى، أصد من الوقاية، حيث الحوش يكون أقل برودة ويحميهم من الانفلونزا أو النشلة ويسمونها في عرفهم «حدرت الدور» أي الانتقال من النوم في السطح الى الحوش ثم الى الغرف، الدور مفردها: دار.
عندما يدخل الأصفري تتوجه الأسر الكويتية على فقرهم، لكن معرفتهم بالوراثة دلتهم على علاج أنفسهم عن طريق الرقابة، فكانوا يقومون بتحضير «حلول» في البيت، وهو ان تأخذ الأسرة جميعها مواد مسهلة، وهي عبارة عن أعواد كانت خضراء وأصبحت جافة، وتطبخ، ومن ثم تقوم الأسرة جميعها بشرب هذا الشراب من الصباح الباكر من دون «ريوق» (إفطار) وعندما يحين الظهر يبدأ هذا المحلول يفعل مفعوله، حيث يجري تغيرات في جسم الإنسان ويسحب جميع المواد العالقة في المعدة، والأمعاء خصوصاً، ويطهرها وبهذا يكون جزءاً من الوقاية من المرض (الانفلونزا).
ثانياً: كان لا يفوتهم تبخير غرفهم ودورهم بعشبة خاصة يعرفونها عند دخول هذا الأصفري أو اذا أصيب أحد أفراد الأسرة بهذا المرض، فيقومون بتبخير البيت والغرفة بهذه العشبة، بحيث يضعونها في النار، ومن ثم تتبخر الغرفة وتقضي على هذا الميكروب وعدواه، حيث يستنشق سكان البيت بخار هذه العشبة فيخرج المرض من أجسامهم.
الكويتيون القدماء كانت عندما تأتيهم هذه الكحّة (بتشديد الحاء) يقومون بتنظيف أنوفهم بــ «غترهم» التي على رؤوسهم، ويلاحظ ان نسبة الإصابة في الانفلونزا قليلة في الماضي، وليس مثل اليوم، الكثير منها.
كانوا في القديم اذا جاء رجل الى الديوان لا تجد أحداً يقبل الآخر أو يسلم عليه بيده، بل يسلم بلسانه: السلام عليكم، ويردون عليه السلام، ويجلس في المجلس بعكس اليوم الذي يقوم الإنسان بتقبيل و«بوس» كل الحاضرين، ان لم يكن يسلم عليهم باليد، هذه العادة لم تكن موجودة في القديم بالكويت.
عند دخول الأصفري يتوجه الكثيرون الى شرب «القرفة» (الدارسين) والزعتر والزنجبيل، وهي من المواد المساعدة لمقاومة تلك العدوى وذلك المرض.
كان المرحوم احمد البشر قبل ستين سنة كتب في مجلة البعثة – التي يصدرها طلبة الكويت في القاهرة – ابحاثا قيمة عن الفرزدق وكاظمة، وألحقها ببحث عن تاريخ الادوية في الكويت وجاراتها، وركز على الاوبئة القاتلة، مثل الطاعون الذي انتشر في تلك الحقبة من الزمن.
أتذكر في الطفولة عندما تنتشر النشلة والزكام في الكويت، كانوا يسمونها «فيروس» وكان البعض يظن أن الفيروس هو طائر مثل ابوجعل او الخنفسانة، يطير ويخافون منه!
قلت: كان العرب في الاندلس يعرفون هذا المرض الذي اعطوه اسماء، فكانوا يسمونه «الحمى» ونحن في الكويت عندما «ندعو على احد» نقول له «يا مالك الحمى»، هذه الحمى – الانفلونزا – وصفها الشاعر الكبير المتنبي في شعر بأدق وصف، ولو جئنا بشخص اليوم مصاب بالانفلونزا وقرأ هذا الشعر لوجد كأنه يقصده اليوم!
كان في سنة ثلاثمائة وثمانٍ وأربعين، والمتنبي يخطط للرحيل ومغادرة مصر، تأتيه حمى الانفلونزا بين الحين والحين من نواحٍ نفسية، ولكثرة تنقله بعيدا عن مواقع كافور، حيث يستعد للرحيل.
المهم انه بعد ان اصيب بهذه الانفلونزا اخذ يصفها وصفا دقيقا كأنها اليوم، حيث ينام بالفراش و«الالحفة» والمفارش مغطى بها ويرتعش من البرد، وعندما يأتي النهار تذهب عنه وتعود اليه عند النوم مرة ثانية.
ويسرنا هنا ان نقدم اجزاء من هذه القصيدة التاريخية، التي سجّلت لنا هذا المرض قبل أكثر من ألف سنة، يقول المتنبي:
وملني الفراش وكان جنبي
يمل لقاءه في كل عام
قليل عائدي سقم فؤادي
كثير حاسدي صعب مرامي
عليل الجسم ممتنع القيام
شديد السكر من غير المدام
وزائرتي كأن بها حياء
فليس تزور الا في الظلام
بذلت لها المطارف والحشايا
فعافتها وباتت في عظامي
يضيق الجلد عن نفسي وعنها
فتوسعه بأنواع السقام
كأن الصبح يطردها فتجري
مدامعها بأربعة سجام
أراقب وقتها من غير شوق
مراقبة المشوق المستهام
ويصدق وعدها والصديق شر
اذا ألقاك في الكرب العظام
أبنت الدهر عندي كل بنت
فكيف وصلت أنت من الزحام
جرحت مجرحا لم يبق فيه
مكان للسيوف ولا السهام
الا يا ليت شعر يدي أتمسي
تصرف في عنان او زمام
وهل أرمي هواي براقصات
محلاة المقاود باللغام
فربتما شفيت غليل صدري
بسير او قناة او حسام
وضاقت خطة فخلصت منها
خلاص الخمر من نسج الفدام
وفارقت الحبيب بلا وداع
وودعت البلاد بلا سلام
يقول لي الطبيب أكلت شيئا
وداؤك في شرابك والطعام
وما في طبه أني جواد
اضر بجسمه طول الجمام
تعود أن يغبر في السرايا
ويدخل من قتام في قتام
فأمسك لا يطال له فيرعى
ولا هو في العليق ولا اللجام
فإن أمرض فما مرض اصطباري
وإن أحمم فما حم اعتزامي
وإن اسلم فما أبقى ولكن
سلمت من الحمام الى الحمام
تمتع من سهاد او رقاد
ولا تأمل كرى تحت الرجام
فإن لثالث الحالين معنى
سوى معنى انتباهك والمنام
وأخيراً، فهذه قصة الانفلونزا في تاريخ الكويت، حيث ان كثيرا من الشباب الكويتيين الذين يكونون بحارة (بتشديد الحاء) ملاحين في السفن الكويتية على كثر رحلاتهم في البحر لا يعرفون الانفلونزا، لأنها لا تصل إليهم في السفن، ولا يمكن لهذه العدوى أن تنتقل إليهم، لهذا كانت صحتهم جيدة ويقومون بواجباتهم في البحر على أحسن وجه.
لكن هذه الانفلونزا التي تأتينا كل عام مع دخول الصغرى ابتدأت تستوطن في الكويت، وابتدأ كثير من ابناء الكويت يعانون منها لقلة المناعة، ومع تغير الأجواء حيث استعمال المكيفات التي تقوم بتبريد الجو غصبا عن الطبيعة.
فالإنسان يعيش بين جو بارد في الليل في الفراش ويخرج إلى الحر قبل ركوب السيارة او المشي فيفاجأ بتقلب الطقس عليه.
إذن هكذا نعيش مع الانفلونزا وتقلباتها وتلبداتها في أجواء الكويت.