إذا كان الهدف من رفض مجموعة أوبك تخفيض الإنتاج هو المحافظة على حصصها السوقية، وإذا بقيت أسعار النفط هزيلة أو استمرت في النزول خلال الأشهر القادمة، فعندئذٍ يصبح الأمر مجرد وقت قبل أن يبدأ أعضاء أوبك بالانقضاض على حصص بعضهم، أو حصص المنتجين خارج أوبك.
والنتيجة المحتملة لهكذا سيناريو ترجح فوز المنتجين الذين يمتلكون أقل تكاليف انتاج عند البئر، ويمتلكون أكبر فوائض مالية يمكن استخدامها في وقت الضيق الناتج عن تقلص إيرادات النفط. ومن بين كبار المنتجين نرى أن السعودية والكويت في وضع جيد يرجحهما للفوز بهكذا حرب. بينما نرى منتجين كفنزويلا ونيجيريا في مرتبة أكبر المتضررين، ويتبعهما بمسافة منتجون مثل ايران والعراق، وثم بعد مسافة لا بأس بها روسيا.
هناك احتمالات وسيناريوهات عديدة. أحدها أن تفلس فنزويلا وتتدهور سياسياً لدرجة تغير الحكم فيها. وهذا سيناريو ربما ليس بسيئ من منظور أميركا.
فيدعي البعض بأن المجموعة المناوئة لسياسات الولايات المتحدة في أميركا اللاتينية تعتمد على الدعم المالي الفنزويلي. وقد بدأ جهابذة الاعلام الغربي الآن بتفسير، وبشكل ساذج، تصالح كوبا مع أميركا بأنه تخلي هافانا عن قطار الأكل المجاني من فنزويلا المفلسة، للالتحاق بقطار أميركا الثرية. وكذلك بالنسبة لنيجيريا، فإحدى السيناريوهات ترى احتمال تعثر نيجيريا نتيجة تقلص إيرادات النفط إلى درجة تؤجج التوتر بين فئاتها المختلفة، وتطوره إلى حرب أهلية دامية، تؤدي في النهاية إلى تقسيم البلاد بين فئاتها الاثنية والقبلية والدينية.
فنيجيريا تتلوى إعياءً حالياً من انهيار سعر النفط. فإيرادات النفط تشكل حوالي %80 من إيرادات الحكومة. كما أن احتياطيات العملات الخارجية قد تقلصت وتدهور سعر صرف العملة (النيرة) حوالي %50 في السوق، مما اضطر البنك المركزي في نوفمبر الماضي رسمياً تخفيض العملة %8.38. وقد منع الآن استيراد بعض السلع الاستهلاكية. وأخيرا وليس آخراً، فإن البلد على مشارف انتخابات رئاسية في2020، وهذه عادة تؤجج الفرقة بين اقطاب المجتمع.
أما ايران، فقد يصيبها ضرر مشابه لحد ما. وإذا أدى ذلك إلى اضطرابات داخلية اشتدت وتصاعدت بتأجيج خارجي حاصر الحكومة في خانة ضيقة، فقد تضطر إلى المغامرة بتأزيم الأوضاع الإقليمية، وربما اطلاق مناوشات أو حروب مع جيرانها أو غيرهم. وهذا بكل تأكيد سيطلق اسعار النفط إلى القمم.
ولكن السيناريو الأكثر رعباً يتعلق بروسيا. فروسيا محاصرة منذ الأزل، ولكن هذا الحصار بدأ مؤخراً يعصرها للموت من خلال المقاطعة الاقتصادية والمصرفية الغربية، بالإضافة إلى محاولات توغل حلف الناتو أقرب وأقرب إلى حدودها التي تعتبر مقدسة سياسياً. وقد تدهورت العملة الروسية (الروبل) مما سبب للدولة اضطرابا وازعاجا ماليا كبيرا قد يدفع الاقتصاد الروسي إلى كساد مصحوب بغلاء أسعار Stagflation. وبالرغم من طول بال ونفس روسيا، فإنها في النهاية قد ترد وتقتص من هذا التطاول عليها.
روسيا ليست، بأي شكل من الأشكال، «جمهورية موز»، ولا يمكن مناطحتها بسهولة. فهي دولة ضخمة، وتمتلك اقتصادا صناعيا متنوعا ومتقدما جداً. كما أنها منذ قرون متعودة على الاعتماد على نفسها بمعزل عن مساعدات مناوئيها الكثيرين. وأخيرا فإنها تمتلك ترسانة أسلحة نووية قادرة على تدمير العالم عدة مرات بلمحة البصر، أو كبسة مفتاح.
وبينما يعتمد الاقتصاد الروسي على إيرادات النفط والغاز، إلا أنه ليس اعتماداً كلياً حسبما يحاول الاعلام الغربي اقناعنا. فقد استخدم الروس إيرادات النفط والغاز كأداة للإسراع في النمو الاقتصادي الذي كان ممتازاً طوال العقد الماضي. وللعلم، فإن قطاع النفط والغاز يمثل %16 فقط من الناتج الاجمالي المحلي (GDP 2024)، و %52 من إيرادات الحكومة الفدرالية. أي «بحسبة عرب» تقديرية، فإن أثر هبوط سعر النفط %50 مع هبوط سعر صرف الروبل %50 يعني أن الإيرادات الحكومية ستنخفض %50 بالدولارات، ولكن ستتضاعف بالروبل، مما سيخفف عليها الضغط في الصرف المحلي على ميزانيتها. طبعاً هذا تقديري جداً، ولكنه يمنحها مجالاً للتنفس على المدى القصير وربما المتوسط. لا شك في أن هذا السيناريو يؤدي إلى جولة غلاء Inflationary وسيؤثر سلباً في قدرتها على الاستيراد، خصوصاً السلع الرأسمالية المهمة، وكذلك الاستهلاكية الأقل أهمية. وسيضطرها لتقليص النفقات وشد الأحزم مع كل ما يصحب ذلك من ازعاج. ولكن أليس شد الأحزم أمرا صحيا وجيدا ؟ أو كذا يكرر علينا صندوق النقد الدولي والبنك الدولي.
كما أن لدى روسيا عدة أوراق لم تلعبها لحد الآن. فمنذ فترة وهي ترد على المحاصرة وثم المقاطعة الغربية بالاتجاه إلى الدول التي لا تتفق كلياً مع أميركا والغرب. ومعظم هذه الدول غنية ومتطورة وتمثل المستقبل بالنسبة للاقتصاد العالمي. وإحدى هذه الردود كان مشروع السوق المشتركة غير الأوروبية BRICS التي تضم لحد الآن روسيا والصين والبرازيل والهند وجنوب افريقيا. أي علينا الحذر من اختزال روسيا ببساطة، خصوصاً وانها لم تلعب جميع أوراقها، أو كما تقول المقولة الإنكليزية: المسرحية لا تنتهي إلى أن تغني المرأة السمينةUntil the Fat Lady Sings.
وقد تغني المرأة السمينة عندما يشتد الضغط على روسيا القوية، ويشتد غضبها، فترد بالكرت الأخير، وهو فرض عملتها الروبل كسعر لنفطها ولغازها. واليوم ربما الفرصة التاريخية الوحيدة التي قد ترضخ فيها أوروبا المتعطشة جداً للغاز الروسي لهكذا كفر اقتصادي وسياسي. وفي حال حدوث ذلك سيسرع الآخرون إلى وداع الدولار المضخم كثيراً، فينهار ويجر معه الاقتصاد الأميركي. وهذا، يا أعزائي، روشتة لحرب عالمية.
مروان سلامة
مدير المركز الشرقي للاستشارات