تخطى إلى المحتوى

حسن حنفي: الحركات الأصولية تعيش بعقلية السجين

  • بواسطة
حسن حنفي: الحركات الأصولية تعيش بعقلية السجين
خليجية لعله من أكثر المفكرين العرب إثارة للجدل، قد يعتبره الأصولي مارقا، ويراه العلماني «توفيقيا»، لكن تلامذته يجمعون على أنه واحد من أفضل شراح الفلسفة الغربية. إنه المفكر وأستاذ الفلسفة حسن حنفي. كيف يرى صاحب كتاب «من العقيدة إلى الثورة» اشكالية الحركات الأصولية، وامكانية ايجاد حلول للولاءات الممزقة بعد أن فشلت هذه الحركات في تقديم بديل مقبول، بل إنها وضعت الدولة والمجتمع العربي كليهما أمام مشكلة وجود، وظواهر عنف غير مسبوق؟

● رغم كل محاولات تجديد ونقد الفكر الأصولي المعاصر التي نهضتم بها مع آخرين من أمثال محمد آركون وعابد الجابري وصادق العظم وغيرهم، لماذا برأيك أعرضت الحركات الأصولية عن هذا الارث النقدي متجهة إلى العنف، رغم أن هذا الارث كان يمكن أن يصبح طوق نجاتها؟

ــــ الحركات الأصولية الآن تعمل بقانون الفعل ورد الفعل، فهي «خريجة سجون»، وعقلية السجين تعادي العالم كله وترى أنها على الصواب وأن الباقين على خطأ، وبالتالي فإنها حين تصل إلى السلطة تحكم بعقلية السجين وعقلية الجماعة المضطهدة وليس بعقلية الدولة، لا تحتاج إلى سجن جديد بل إلى حوار وتفاهم، وإعطاء بعض الوقت حتى تتحول إلى نفسية المواطن.

سيد قطب

ويتابع حنفي:

– ما حدث مثلا لسيد قطب «المفكر الاسلامي» أنه لم تكن له صلة بالاتجاهات الاصولية في مطلع حياته، بدأ أديبا وناقدا، وكان من أوائل من عرفوا بنجيب محفوظ، وحين أصبح أمينا للدعوة في جماعة الاخوان لم يكن مرغوبا فيه من الكثيرين في الجماعة وكان الرئيس الراحل جمال عبد الناصر معجبا به، وأراد أن يعينه رئيسا لهيئة التحرير، حتى جاءت مأساة الاخوان عام 1954 ودخل قطب السجن بتهمة محاولة اغتيال عبدالناصر، ثم خرج في الستينات وعاد بعد عام أو اثنين. وبدا من الملحوظ أن كتابه ظلال القرآن كان يشهد تحولا من تفسير عادي بالمعنى المألوف إلى تفسير يتهم المجتمع بالكفر ويركز على الصراع بين الاسلام والجاهلية.

وكان عبدالناصر قد قرأ كتاب قطب «معالم في الطريق» واعتبره كتابا مختلفا وليس مجرد دعوة دينية، رآه تصورا عن حزب وتنظيم يؤكدان فكرة القلة التي تغلب الكثرة. وبالفعل تبين أن هناك تنظيما يقوده سيد قطب من داخل السجن وبدأ التحقيق الذي انتهى باستشهاده. الحركة الأصولية نشأت إذن في السجون والمعتقلات، ولم تنشأ في بيئة طبيعية، هي رد فعل على الاستبعاد أو التهميش.

أين البدائل؟

ويتابع حسن حنفي: هناك مشكلة أخرى، وهي أن البدائل لهذا الاتجاه غير واضحة؛ فالبديل القُطري انتهى بدولة مستبدة وفاسدة لا تجسّد حركة التحرر الوطني، والبديل القومي انتهى بمأساة 67، حتى البديل الإسلامي حُكمت خلاله الدولة بعقلية الجماعة، وأصبح مكتب الارشاد له سلطة أكبر من سلطة رئيس الدولة. فماذا يفعل الشباب الآن للتعبير عن ولائهم او انتمائهم لفكرة؟.. انهم يصرخون، وهذا الذي نراه هو صرخات انسان استُبعد فإذا جاء إلى الحكم استبعد الآخرين، فهو في أزمة كما أن الاتجاهات الأخرى في أزمة مماثلة، حيث لا تستطيع تكوين قائمة حزبية متوافقة.. فالمأزق السياسي لا يتصل فقط بالحركة الأصولية. نحن نعيش في مناخ غير سليم كله عواطف وانفعالات، وليس فيه مجال للتحليل العقلي السليم.

● أنت تتحدث عما يعتبره الأصولي عقيدة باعتبارها ثقافة، فكيف يمكن حل هذا المأزق؟

– صاحب العقيدة لا يفهم ما هي العقيدة، وصاحب الثقافة أيضا لا يفهم ما هي الثقافة. فالأول يظن أنه أمام حقيقة مطلقة مقدسة قادرة على القضاء على العالم، دفاعا عن نفسها، العقيدة المفترض أن تكون دافعا للسلوك القويم، فهي توجُّه نحو العمل الصالح، والثقافة أيضا ليست مجموعة من المنقولات، لكنها نسق من القيم يحرك الناس بما في ذلك الثقافة الشعبية، وكل ما يدفع الناس في الحياة من قيم. صاحب العقيدة يظن أن من ينظر إلى الثقافة هكذا بمعناها الاجتماعي التاريخي هو شاك في العقيدة، كما يعتبر المثقف أن الأصولي مجرد متعصب.

الحقيقة المطلقة

● باعتبارك استاذاً للفلسفة ينبغي ألا تترك البداهات بلا فحص، لكنك تنطلق من «النص» كمسألة بداهية، محاولا استخلاص ما يمكن أن يمثل فيه قوة دافعة إلى الامام، الا تجد في هذا بعض التنازل؟

– انا كعالم أعرف حدودي، وما لا أعرفه أقول: الله أعلم، أستعمل المناهج العلمية، أعرف أن اللغة متطورة، وأن النص لا يحمل معانيه في داخله ولا يتحدث عن نفسه، لكن القارئ هو من يعطي معنى للنص طبقا لامكاناته وبواعثه وأغراضه. صاحب النص السلفي لا يأخذ بهذه القضية ويظن أن معاني النص موجودة داخله وأنها ثابتة لا تتغير. وأنا لا أستبعده، بل أقول: هذا موقف من اللغة ومن النص، أنا أقبله كتيار موجود في الماضي وفي الحاضر، وأنا أمثل تيارا كان أيضا موجودا في الماضي. القضية هي لماذا لا يقبل الحوار مع الرأي المخالف كما أقبله؟ لأنه يظن أنه على حقيقة مطلقة، وأن هناك خطأ وصوابا، وأنه يمتلك الصواب، لكن ربما ساعد عدم استبعادي له على جعله يتحرج هو أيضا من استبعادي، كما يمكن أن يفعل مع العلماني الذي يقطع مع النص كلية.

حوار مستأنف

● شهدت نهاية الثمانينات حوارات مشهودة بينك وبين عابد الجابري على صفحات «اليوم السابع» لو تصورت أن الحوار مستأنف الآن فكيف كنت ستراه؟

– كنا سنطرح إشكالات أخرى، فقد تغيرت الأحداث والظروف على مدى ثلاثين عاماً، تطرح قضايا أخرى، ما مصير الربيع العربي؟ ما مصير الدولة الوطنية؟ ما مصير البديل عنها لأنها الآن أصبحت مهددة؟ ما زال هناك خيار يتشكل، جربنا البديل الإسلامي في مصر عام 2024، ورأينا كيف حُكمت الدولة بعقلية الجماعة، وهو ما لا يريد الناس العودة إليه مجدداً.

هل نظام الدولة العلمانية الذي جسّده مصطفى كمال أتاتورك وفق ظروف خاصة تتمثل في تحرير تركيا ما زال وارداً؟ كان هذا حلاً وقتياً، لأن الإسلام ما زال في قلوب الناس، والسؤال نفسه يدور في كل العالم الإسلامي، وهو أن الخلافة هي التي حمت المغرب العربي من الاستعمار الفرنسي، وحمت أواسط آسيا من الاستعمار الروسي، فبدأ هذا الحلم يعود بديلاً عن المحاولات التي جربناها، لذلك ينضم إليه الشباب لا الشيوخ، ومعهم الأوروبيون الذين أصيبوا بإحباط من تجربة الحداثة الأوروبية وانتهائها إلى الشك والعدمية، كما أن النظام الرأسمالي أفضى إلى مآس، ومن ثم هناك بحث عن نظام آخر غير النظام العسكري وغير النظام الديني الاستبدادي وغير النظام القطري. في النهاية السؤال هو: الولاء لمن؟ للدولة، أم للقومية العربية أم لتنظيم إسلامي؟ السؤال قائم لأن الولاءات السابقة لم تكن ناجحة.

الولاء لمن؟

● ولماذا يكون الولاء هو المشكلة وليس فهم الواقع الذي تسبب في أزمة الولاء؟

– الولاء بالنسبة للشاب مسألة أساسية، فهو لا يكتفي بالكسب المادي ولا يكفيه الحلم الاجتماعي مثل أن يكون له دور ومنصب، ولكنه يبحث عن القضية التي يمكن أن يضحي بنفسه لأجلها، أي ما يسمى بالاستشهاد. فالولاء هو الإحساس بانتماء إلى شيء يمكنك التضحية في سبيله، وعندما يرى الشاب أن هناك فكرة تنهي سايكس بيكو وتعيد بعض أحلام الخلافة وتعادي الغرب، فسيتجه إليها.

● ننظر إلى الأفكار عادة كسلاح في مواجهة، وليس طريقاً لتجواز الاختلاف وإيجاد قاعدة فهم مشترك.

الحركات الإسلامية حركات مصلحية، تغلّب أحياناً المصلحي على الحقيقي، وهذا يفسر التحالف أحياناً مع الأميركان، أو من قبل مع الفلك فاروق. وهذه صعوبة إدخال الدين في السياسة، لأنك في الدين تتعامل مع أنساق كلية حقيقية، وفي السياسة مع جزئيات عملية، وأنت لا تستطيع أن توفق بين الاثنين، فتضحي أحياناً بأحدهما من أجل الآخر.

لاهوت التحرير

● لماذا ينجح «لاهوت التحرير» في مكان ولا ينجح في آخر؟

– نقد الكنيسة ونقد نظام العقائد الكلي ونقد رجال الدين تم في مطالع العصور الحديثة، هناك أربعة قرون اعتاد فيها المسيحيون على نقد العقائد والمؤسسات الدينية، فسهل بعد ذلك أن تجد مسيحية، ولكن من دون مؤسسات ومن دون أغنياء ومن دون أميركا، بعد تخلص المسيحية من الكنيسة كرمز للتسلط. لدينا لم تنشأ بعد حركة قوية لرفض الاستبداد، والاستبداد لا يظهر فقط في المؤسسات، بل يمكن أن يظهر في استبداد تفسير النص وتأويله، فما زلنا نتحرك في إطار السلطة القديمة، ويصعب أن يقع التحرر قبل التحرر من الاستبداد الاجتماعي. نحن ما زلنا في نهاية العصر الوسيط، ونرجو بداية العصر الحديث.

هل ينتظرنا التاريخ؟

كل حضارة لها تاريخها، ضع نفسك في تاريخك الإسلامي أنت الآن في القرن الـ15 الهجري وراؤك 15 قرناً، السبعة الأولى أرخها بن خلدون ووصف كيف تبنى الدول وكيف تنهار، وفي السبعة التالية كان عصر الملخصات والشروح ولم يظهر ابن خلدون جديد يضعها بعين الاعتبار. ثم نتكلم عن النهضة والتنوير والإصلاح من دون أن نعرف في أي مرحلة نعيش!

حاول أن تجد لك مساراًَ في التاريخ، وتحدد لك مرحلة فيه، حتى تكتشف دورك ومكانك وقوّتك وفعلك. نحن الآن خارج تاريخنا، ووضعنا أنفسنا في تاريخ غيرنا، فلا تاريخنا حركناه، ولا تاريخ غيرنا استقبلناه.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.