فرحان عبدالله الفرحان
لا يختلف اثنان على ان عباس محمود العقاد هو أحد الفرسان الثلاثة البارزين على مستوى الاعلام في مصر مع توفيق الحكيم وطه حسين.
كنت محظوظاً ان التقي مع العقاد ابان دراستي في مصر، فقد دعاني زميلي في الدراسة وهو من الأردن، عبدالله خليل شبيب قائلا: ما ودّك تزور العقاد؟ ترى عنده جلسة اسبوعية صباح كل جمعة، فقلت: توكل على الله، وفي صبيحة يوم الجمعة التالي كنا نستقل الباص من محطة العقبة متجهين الى مصر الجديدة، وفي محطة روكسي نزلنا من الباص وسرنا بين العمارات الجديدة، وفي شارع فرعي توقفنا امام عمارة وصعدنا الى الدور الأول، ووقفنا قرب أربع درجات امام باب الشقة المغلق، قرعنا الجرس ففتح لنا الباب شاب اشقر ورحب بنا وأدخلنا الى الصالة الواسعة على اليمين، وبعد دقائق دخل علينا العقاد الذي كنت أراه لأول مرة، فرحب بنا وكان يعرف رفيقي عبدالله شبيب من الزيارات السابقة وسأله «من ذا الذي معاك يا شبيب؟»، فقال له: شاب كويتي فرحان عبدالله الفرحان، فرحب بي العقاد قائلا «انتم بلد البترول»، فقلت له: مولانا البترول حديث في الكويت، اما كان الكويتيون في القديم فيعملون في الغوص على اللؤلؤ.
كنت أتذكر العقاد يجلس في وسط الصالة لابساً البيجاما وفوقها الروب، ويقدم لضيوفه «اليموناتا» كما يسميها المصريون ويقدم القهوة.
امتلأ الصالون بالزوار وقد تكاثروا في فترة قليلة، فتجد بينهم الصحافيين والكتاب.. في احدى الجمع، وصلت سيارة الاذاعة المصرية ترافقها شاحنة بيضاء ووقفت «أُصاد» بيت العقاد ونزل منها معد البرنامج الاذاعي، وكانت الوايرات تمتد من السيارة الى بيت العقاد وعبر البلكونة لاجراء لقاء اذاعي للعقاد وضيوفه، وأرى كثيراً من الحضور كل واحد يعد ربطة عنق الآخر ويعدل الجاكيت (البالطو) الذي لابسه لقاء اذاعي مو تلفزيون .
استغرق اللقاء ثلاث ساعات، أتذكر يسأل العقاد عن طفولته، فيقول: كانت والدتي أصلها من بلاد الأكراد، وقد ربتنا تربية صالحة ودفنت في أسوان في صعيد مصر، وأنا انتظر لأدفن في المستقبل على مقربة منها. أتذكر في أحد الأيام أخذوا يتحدثون عن الجائزة التقديرية التي تمنح للشخصيات المتميزة في مصر مثل طه حسين وتوفيق الحكيم، وتأخر العقاد أن تمنح له، فقال: هذه جائزة غير تقديرية لأنها لم تمنح له بالتساوي مع الحكيم وطه حسين لأن جمال عبدالناصر غير راض عن العقاد. عندما تلقي نظرة داخل بيت العقاد لا تجد جدراناً أو «طوف» (جمع طوفة) أمامك كل البيت، والغرف عبارة عن كتب مصفوفة في دواليبها، وربما لا يوجد كتاب في هذا البيت إلا والعقاد كان له لمسة ومطالعة وملاحظة عليه. في أحد الأيام التي زرت فيها بيت الكويت مكتب البعثات في القاهرة كان المرحوم عبداللطيف الشملان تنامى إلى سمعه أنني أذهب يوم الجمعة إلى بيت العقاد فناداني إلى مكتبه يوماً ما، وقال لي: «أنت تروح للعقاد فقلت له: إيه والله نطل عليه كل جمعة صباحاً»، فقال لي: «أمعود الرجّال زعلان علينا لأنه لم يقبض المكافأة لما كتبه لمجلة العربي المزمع صدورها قريباً، حيث حضر بعض المقالات للأعداد المقبلة، فقلت له: العقاد يحترمني وأنا مستعد أن أصلح ما أفسده الدهر».
وفي يوم الجمعة التالي، وصلت إلى مجلس العقاد متأخراً وكلمت بعد الدخول والسلام والتحية عامر ابن أخو العقاد في الموضوع، فقال: الأفضل أن تبحث النواحي المادية مع عمي، وكتب عامر ورقة صغيرة وأعطاها لعمه عباس العقاد والمجلس عامر على ودنه، وبعد أن قرأها العقاد وأنا أنظر إليه وضعها في جيبه فقلت: إن الرجل مو مهتم وبعد ربع ساعة وقف بقامته الطويلة، وقال لي من بين الناس: ابني، تعال لي معاك كلام خاص، المجلس استغرب من هذا الموقف وتوجهت مع الباشا او البيك العقاد الى غرفة صغيرة فيها مكتب، واغلق الباب وقال لي: يا ابني عامر راح لهم في المكتب مرتين وينتظر وفي كل مرة لا يجد جوابا، فقلت له: يا مولانا تعرف روتين مصر احنا الكويتيين نطبع بطباعكم، فضحك، فقلت له: ان شاء الله الاسبوع القادم ستكون الجنيهات بين يديك، وفعلا في الاسبوع التالي جئت بها في ظرف مع كتاب شكر.
المهم بعد ان انتهت الجلسة في مكتبه الخاص، توجهت الى الصالة واخذت مجلسي اصبحت من الشخصيات البارزة، لان العقاد اخذ يعطيني اهتماما خاصا والكل في المجلس العقادي ينظر لي باحترام وتقدير.
لا يختلف اثنان على ان العقاد في الاربعينات والخمسينات من القرن الماضي كان احد الفرسان الثلاثة مع طه حسين وتوفيق الحكيم، كما كانت تبرزهم الصحف والمجلات المصرية والا في مصر غيرهم الكثيرون وربما احسن منهم.
كانت بدايات العقاد أو عباس أفندي محمود العقاد، كما كان يعرف في بداية عمله، محرراً في جريدة «البلاغ» سنة 1926، وعمل قبلها في تصحيح المقالات والتحرير، فأخرج ديوان العقاد سنة 1916 وطبع سنة 1921 وكانت هذه ما دفعته للكتابة والبحث والعمل الدؤوب.
كان المرحوم خير الدين الزركلي خير من كتب عنه، يقول في كتابه الاعلام الجزء الثالث صفحة 266 التالي:
العقّاد
1306 – 1383 هــ = 1889 – 1964م
عباس بن محمود بن ابراهيم بن مصطفى العقاد: امام في الأدب، مصري، من المكثرين كتابة وتصنيفاً مع الابداع. أصله من دمياط، انتقل أسلافه الى المحلة الكبرى، وكان أحدهم يعمل في «عقادة» الحرير. فعرف بالعقاد. وأقام أبوه «صرافاً» في اسنا فتزوج بكردية من أسوان. وولد عباس في أسوان وتعلم في مدرستها الابتدائية. وشغف بالمطالعة. وسعى للرزق فكان موظفاً بالسكة الحديدية وبوزارة الأوقاف بالقاهرة ثم معلماً في بعض المدارس الأهلية. وانقطع الى الكتابة في الصحف والتأليف، وأقبل الناس على ما ينشر. تعلم الانكليزية في صباه وأجادها ثم ألم بالألمانية والفرنسية وظل اسمه لامعاً مدة نصف قرن أخرج خلالها من تصنيفه 83 كتاباً، في أنواع مختلفة من الأدب الرفيع، منها كتاب «عن الله» و«عبقرية محمد» و«عبقرية خالد» و«عبقرية عمر» و«عبقرية علي» و«عبقرية الصديق» و«رجعة ابي العلاء» و«الفصول» و«مراجعات في الأدب والفنون» و«ساعات بين الكتب» و«ابن الرومي» و«أبو نواس» و«سارة» و«سعد زغلول» و«المرأة في القرآن» و«هتلر» و«ابليس» و«مجمع الأحياء» و«الصديقة بنت الصديق» و«عرائس وشياطين» و«ما يقال عن الاسلام» و«التفكير فريضة اسلامية» و«أعاصير مغرب» و«المطالعات» و«الشذور» و«ديوان العقاد» وكلها مطبوعة متداولة. وصدر له بعد وفاته كتاب سماه ناشره «أنا. بقلم عباس محمود». وكان من أعضاء المجامع العربية الثلاثة (دمشق والقاهرة وبغداد) شعره جيد. ولما برزت حركة التحلل من قواعد اللغة وأساليب الفصحى عمل على سحقها. وكان أجش الصوت، في قامته طول، نعت من أجله بالعملاق.
العقاد بلا شك كان فارس الميدان في مصر قبل الثورة المصرية وبعدها، وكان عضوا بارزا في مجمع اللغة العربية بالقاهرة، وكان عضوا بارزا في مجمع وصالون السيدة مي زيادة في الأربعينات في القرن العشرين، كتب عن العقاد أكثر من بحث ورسالة للماجستير والدكتوراه، بعضها استقى من صحيفة الأهرام، من ارشيفها، وبعضها من مجمع اللغة العربية، وبعضها من أحاديث العقاد نفسه، وذلك في أحاديثه الطويلة للمرحوم الزركلي في سنة 1945 وكذلك ما أخذ من رواد ديوانه في مصر الجديدة الذي كان يغشاه الكثيرون، ومنهم كاتب هذه السطور.
كان العقاد بلا شك ترك بصمات كثيرة، ويكفيك كتبه المتنوعة والمبثوثة في العالم العربي.
إذن هذا هو عباس العقاد كما عرفت، الذي لا يحمل لا شهادة ثانوية ولا ماجستير ولا دكتوراه، لكنه فرض نفسه على الجميع وأصبح فوق الدكتوراه.