تخطى إلى المحتوى

قصر ونشستير الغامض … متاهة الأشباح

قصر ونشستير الغامضمتاهة الأشباح

خليجية

درجت العادة منذ القدم على أن يستعجل الناس بناء منازلهم عسى أن تدفع عنهم حر الصيف وقر الشتاء وعيون المتطفلين. لكن ما رأيك في من يقضي عقودا متمادية من عمره في تشييد منزله؟ لا بل ويصر على عدم انجازه ويستمر في بناء المزيد من الحجرات والردهات والدهاليز على مدار الساعة إلى ما شاء الله من السنين ؟ .. هل هو مجنون ؟ أم إن لديه دافعا غامضا للاستمرار في البناء ؟ هذا ما سنعرفه من خلال قراءة هذه الحكاية الأغرب من الخيال عن السيدة ونشستير ومنزلها العجيب.

ما هي قصة المنزل الغامض ؟

رغم قصر قامتها، وضآلة حجمها، إلا إنها تمتعت بموهبة خطف الأبصار والقلوب أينما حلت وارتحلت، كانت ساحرة بكل معنى الكلمة، متعلمة ومن عائلة ميسورة وعازفة بيانو بارعة، وقبل هذا كله كانت جميلة ومرحة .. ومن لا يعشق فتاة كهذه؟. هذه هي سارة لوكوود باردي في ريعان شبابها، أي قبل أن تصبح السيدة ونشستير.. ثم لاحقا الأرملة ونشستير، تلك العجوز الكئيبة الغامضة التي ستشعر حتما ببرودة خفية تجتاح جسدك وتسري إلى أوصالك بمجرد اقترابك منها .. وما بين سارة الشابة المرحة .. والأرملة العجوز الكئيبة .. هناك حكاية طويلة طويت أولى صفحاتها في بلدة نيوهافن في ولاية كونتيتيكت الأميركية. السيد باردي وحرمه توقعا بأن تحظي ابنتهما الحسناء بزوج ثري وحياة مترفة، وقد شاطرهم هذا الرأي جميع من عرفوا سارة، نظرا لجمالها الخلاب ومزاياها العديدة.

وبالفعل تحققت آمال الجميع حين تقدم لخطبتها الشاب وليم ونشستير، سليل عائلة ونشستير الغنية والمالكة لإحدى اكبر شركات السلاح في أميركا آنذاك، والتي يعود الفضل في نجاحها وثروتها إلى اختراعها الجديد، بندقية ونشستير شبه الآلية، التي حققت نجاحا باهرا في ستينات القرن التاسع عشر خلال الحرب الأهلية الأميركية والمعارك التي خاضها الجيش الاتحادي لطرد قبائل الهنود الحمر والاستيلاء على أراضيهم في الغرب الأميركي، إذ مع كل طلقة وروح بشرية حصدتها البندقية كانت تجارة آل ونشستير تنمو وتزدهر!. وليم ونشستير وسارة باردي تزوجا في سبتمبر عام 1862 وعاشا معا أربعة أعوام هادئة ملؤها البهجة والسرور، ثم تكللت سعادتهما بولادة ابنتهما آني في عام 1866. لكن أي سعادة تلك التي تدوم أبدا ؟ وأية حياة تلك التي لا تنغصها الأحزان؟ ففرحة آل ونشستير لم تدم طويلا، إذ مرضت آني بعد بضعة أسابيع على ولادتها وامتدت إليها يد الموت لتنتزعها من بين أحضان والديها، ومع رحيلها رحلت إلى الأبد تلك الحياة الهانئة الرغيدة التي استمتع الزوجان بها لسنوات. وقع الخسارة كان كبيرا وثقيلا، خصوصا على سارة التي لم تستطع تحمل الصدمة فغرقت في دوامة من الحزن والكآبة، خبت في نفسها تلك الروح المرحة التواقة إلى الضحك والسرور، وانزوت في حجرتها المظلمة تمضي وقتها في البكاء والنحيب، حتى تسلل جزء من ظلام تلك الغرفة الموحشة إلى جسدها واستوطن قلبها وعقلها فغدت أيامها بدون أي طعم أو معنى.

آل ونشستير لم ينجبا طفلا آخر بعد آني، عاشا حياة رتيبة تحت وطأة الحزن؛ لكن يقال إن الزمن والنسيان كفيلان بمحو الذكريات الأليمة ومداواة الجروح الدامية، وهكذا فإنه بعد مضي عدة سنوات على موت طفلتها، بدأت سارة في استعادة القليل من روحها القديمة. لكن المؤسف أن ذلك لم يدم طويلا، فبالكاد بدأت السيدة ونشستير تتعافى من أحزانها حتى عاجلها الدهر بفاجعة جديدة، هذه المرة أصيب زوجها وليم بمرض السل، ولم يمهله المرض طويلا إذ فارق الحياة في يوم بارد من أيام شتاء عام 1880. وبموته بدأ هاجس غريب يسيطر على تفكير سارة التي أصبحت الآن تدعى بالأرملة ونشستير، إحساس خفي أقض مضجعها وجعلها تؤمن في أن موت أحبائها لم يكن حادثا عرضيا، وفي مسعى للعثور على أجوبة شافية لتلك الهواجس القلقة، التجأت سارة لوسيطة روحية مشهورة وذائعة الصيت في ذلك الزمان.

الأرملة الحزينة جلست إلى طاولة خشبية صغيرة تتوسط غرفة موحشة ومظلمة ما خلا ضوء شمعة خافتاً، كان المكان غارقا في سكون وصمت ثقيل لم يبدده سوى كلمات الوسيطة العجوز التي زعمت بأن تمكنت من إحضار روح وليم ونشستير، ولتأكيد هذا الزعم راحت العجوز تصف لسارة شكل وليم وبعض خصاله حتى تيقنت هذه الأخيرة بأن روح زوجها الراحل متواجدة معهما في الغرفة. العجوز تكلمت على لسان وليم .. أخبرت سارة بأن هناك لعنة شريرة تطارد العائلة سببها آلاف الأرواح التي لاقت حتفها بطلقات بنادق ونشستير التي كانت مصدر ثراء ورخاء العائلة، وبأن تلك الأرواح الغاضبة تسببت في موته وموت ابنتهما آني وبأنها ستطارد سارة أيضا حتى تنال منها. ولكي تتجنب سارة ذلك المصير الأسود فإن عليها أن تبيع جميع أملاكها ثم تسافر باتجاه غروب الشمس بحثا عن منزل جديد ستميزه وتعرفه ما إن تراه لأن روح وليم ستكون دليلها ومرشدها خلال تلك الرحلة، حسب موق كابوس.

“يجب أن تبدئي حياة جيدة” .. همست الوسيطة العجوز بصوت خافت أشبه بفحيح الأفعى ثم أردفت قائلة : “يقول وليم بأن عليك أن تبني منزلا كبيرا لنفسك ولجميع الأرواح التي سقطت بسبب السلاح الرهيب، لا يمكنك التوقف عن البناء أبدا، تذكري ذلك جيدا .. إذا استمررت بالبناء ستعيشين، وإذا توقفت ستموتين”. حين غادرت سارة منزل الوسيطة الروحية في ذلك المساء، كانت مؤمنة تماما بأن ما قالته العجوز خلال جلسة تحضير الأرواح هو حقا كلام شبح زوجها الراحل وليم، لذلك لم تلبث أن باعت جميع أملاكها في نيوهافن ثم يممت وجهها صوب الغرب الأميركي في رحلة طويلة وشاقة انتهت بها إلى كاليفورنيا، هناك قادتها الصدفة، أو ربما حدسها، إلى منزل خشبي تحت الإنشاء يتألف من 8 غرف. أحست سارة بأن هذا هو المنزل المنشود وبأن روح زوجها هي التي قادتها إليه، وبغض النظر عن حقيقة هذا الإحساس، اشترت سارة المنزل والأرض المحيطة به من مالكه الطبيب روبرت كلادويل وشرعت في الحال في عملية بناء طويلة ستستمر لعشرات السنين.

سارة سكنت المنزل مع خدمها حتى قبل أن يكتمل بناؤه، ومنذ أن حطت ركابها في رحابه، لم تتوقف أبدا أصوات المطارق والمناشير وغيرها من أدوات البناء، كانت هناك ورشة عمل تتآلف من 22 نجارا محترفا يعملون باستمرار لمدة 24 ساعة يوميا .. 7 أيام في الأسبوع .. 365 يوم في السنة .. لم يكن هناك أي توقف، حتى أثناء تناول الطعام كانوا يتناوبون لكي يستمر العمل، وفي مساء كل يوم كانت سارة تعطي توجيهاتها لما سيفعلونه خلال الأربع والعشرين ساعة اللاحقة، لم تكن هناك خرائط أو رسوم، كان كل شيء يجري عفويا، ولم تبال سارة أبدا لإنفاق المال لأنه لم يكن يشكل عقبة بالنسبة لها، فتركة زوجها بلغت زهاء العشرين مليون دولار – قرابة نصف مليار دولار في هذه الأيام – إضافة إلى حوالي 1000 دولار – 22000 دولار بقيمة هذه الأيام – يوميا كنسبة ثابتة وغير خاضعة للضرائب من أرباح مصانع أسلحة ونشستير.

ويوما بعد آخر توسع المنزل وارتفع بنيانه، كلما أكملوا قسما شرعوا في بناء قسم جديد، وكلما انهوا طابقا شيدوا فوقه طابقا آخر، حتى بلغ ارتفاعه سبعة طوابق، وهو بالطبع ارتفاع شاهق بالنسبة لمنزل خشبي، أما في الداخل فقد تشكلت بمرور الأيام متاهة ضخمة يمكن أن يضل الإنسان طريقه فيها بسهولة، إذ لم يقتصر الأمر على سعة البناء وعشوائيته، لكن الأرملة ونشستير عمدت عن قصد إلى بث العديد من الفخاخ والخدع في أرجاء المنزل. فمثلا يوجد في المنزل 47 سلما، والعديد منها لم تكن سلالم عادية، لأنها كانت تفضي إما إلى جدار مسدود، أو ينتهي السلم الصاعد بآخر نازل!

هناك أيضا ما مجموعه 476 بابا، الكثير منها لم تكن أبوابا تقليدية، فبعضها تفتح على جدران صماء وأخرى تقودك إلى هاوية ترمي بك خارج المنزل، وأحيانا قد تفضي بك إلى غرف مشابهة فيها باب واحد أيضا وتلك الغرف تقودك إلى غرف أخرى وهكذا دواليك حتى يجد الإنسان نفسه ضائعا في متاهة من الغرف والأبواب المتطابقة. شبابيك المنزل لم تكن أقل غرابة، فأغلبها يفتح على غرف أخرى أو على جدران صماء، أما الدهاليز والممرات فالعديد منها ينتهي بجدار مسدود أو يجعلك تدور في متاهة من الدهاليز والأبواب المغلقة. الطريف أنه حتى الخدم وعمال البناء كانوا يضلون سبيلهم بسهولة داخل المنزل، ولهذا كان العديد منهم يستعين بخارطة ليجد طريقه الصحيح. العديد من الناس يقولون إنها فعلت ذلك لكي تربك الأشباح والأرواح التي كانت تطاردها، كان لديها اعتقاد في أن بعض من قتلتهم بنادق ونشستير كانوا قتلة ولصوصا وقطاع طرق، وبأن أرواح هؤلاء كانت حاقدة وشريرة تسعى للانتقام منها وإيذائها، لذلك وضعت تلك الفخاخ والمتاهات لكي تضلل تلك الأرواح فلا تستطيع الوصول إليها.

هناك رأي آخر يزعم بأن عشوائية البناء وعدم استخدام البناؤون للخرائط هو الذي أدى في النهاية إلى صنع هذه المتاهة العظيمة، فسارة كانت تفاجئهم كل مساء بأوامر جديدة، أحيانا كانت تغلق قسما ما قبل انتهاء العمل به وتأمرهم بالشروع في بناء قسم آخر في مكان ثان، وهكذا اضطر هؤلاء إلى إلغاء وتعديل الكثير من أجزاء المنزل نزولا عند رغبتها، لذا فلا عجب أن تنتهي السلالم الصاعدة بأخرى نازلة أو تفضي الأبواب والشبابيك إلى جدران صماء. وهذا الرأي لا يخلو من منطق، لكن الرأي الأول هو الراجح، لأنه إضافة إلى شذوذ التصميم كان المنزل يحوي أمورا أخرى عجيبة من المستبعد أن تكون نتيجة للمصادفة أو لعشوائية البناء، فمثلا كان هناك التزام عجيب بالرقم 13، فجميع سلالم المنزل ما خلا واحدة كانت تتألف من 13 درجة، واغلب الشبابيك تتألف من 13 قطعة زجاجية، ومعظم الجدران فيها 13 لوحا خشبيا، وهناك 13 حماما في المنزل و13 موقدا و13 غرفة نوم و13 ثريا .. الخ.

في عام 1906 سقطت ثلاثة من طوابق المنزل السبعة بسبب زلزال لوس أنجلوس المدمر وتركت بدون ترميم لأن الأرملة ونشستير ظنت بأن الكارثة التي حلت بالمنزل سببها عدم رضا الأرواح على سير العمل فيه! العمل في منزل ونشستير استمر لستة عشر عاما أخرى، ولم يتوقف إلا في صباح يوم 4 سبتمبر عام 1922، ففي ذلك اليوم لم تستيقظ سارة ونشستير من النوم، عثر عليها الخدم جثة هامدة في الفراش، ماتت بهدوء أثناء نومها عن عمر 83 عاما، وطبقا لوصيتها التي كانت تتألف من 13 فقرة ومذيلة بـ 13 إمضاء! فقد أوصت بنقل جثتها إلى مسقط رأسها في نيوهافن لتدفن إلى جوار قبر زوجها وليم وابنتهما آني، أما ثروتها وجميع ما تملك فقد تركته لابنة شقيقتها فرانسس ماريوت التي أدارت أعمالها لسنوات طويلة، وفي الحقيقة بعد 38 عام من البناء والهدر المستمر للأموال لم يكن قد تبقى الشيء الكثير من ثروة سارة ونشستير.

الوريثة فرانسيس لم ترغب بالاحتفاظ بالمنزل، لذا قامت بإخلائه من الأثاث، وقد استغرقت هذه العملية سبعة أسابيع، لأن العديد من عمال الشحن كانوا يضلون طريقهم في الداخل، ثم تم عرض المنزل للبيع في مزاد علني فاشتراه عدد من المستثمرين في مجال السياحة بمبلغ 5.5 مليون دولار، وهكذا تحول المنزل إلى معلم سياحي، واستقبل أول فوج من الزوار والسياح بعد خمسة أشهر فقط على موت سارة ونشستير. الطريف هو أن هناك اختلافا حول عدد غرف المنزل بسبب طبيعة بنائه، ففي كل مرة يحسبون عدد الغرف ينتهون إلى رقم مختلف، والرقم الرسمي الأخير هو 160 غرفة، مع أن هناك من يشكك في هذا الرقم أيضا. في الختام قد تسألعن الدافع الحقيقي الذي جعل سارة ونشستير تنفق ثروتها وعمرها في بناء منزل كهذا ؟ هل كانت هناك حقا أرواح وأشباح تطاردها؟

أحد الكتب الذي صدرت حديثا وتناولت حياة سارة ونشستير بالتفصيل كان له رأي آخر، فحسب مؤلفة الكتاب كان الدافع لبناء هذا الصرح الضخم هو رغبة سارة ونشستير في الانزواء والتهرب والتملص من لقاء أصدقائها وأقاربها وذلك بسبب تقدمها في العمر وزوال جمالها ونضارتها، إذ يقال إن يداها كانتا ترتعشان باستمرار وأصبح فمها خاليا من الأسنان تماما. لكن في الحقيقة معظم الناس والمؤرخين لا يتفقون مع ما ذهبت إليه المؤلفة في كتابها، لأن سارة كانت تلتقي النجارين والعمال في منزلها يوميا ومن المستبعد أن تكون قد عانت من عقدة ما بسبب شكلها ومظهرها، كما أن التملص من الأصدقاء والأقارب لا يستلزم بناء منزل ضخم كهذا، كان يمكنها الانتقال إلى منزل آخر في ولاية أو مدينة أخرى بعيدا عن أصدقائها وأقاربها. إذن فالرأي الأقرب إلى الصواب هو أن الحكاية حقيقية، وأن سارة ونشسيتر آمنت حقا بوجود أشباح تطاردها.

جواب هذا السؤال قد يختلف من شخص لآخر، فالبعض سيقولون بالتأكيد بأن سارة ونشستير لم تكن سوى امرأة مضطربة نفسيا، اثر فقدان ابنتها وزوجها على سلامتها العقلية، والدليل على ذلك هو ما انخرطت فيه من بناء وتبديد للأموال زهاء أربعين عاما، وهو أمر يندر أن يصدر عن إنسان طبيعي في كامل قواه العقلية. وهناك أيضا من يؤمن بقصة الأشباح، ولا يفوتنا التنويه هنا إلى أن المنزل لا يزال حتى اليوم على قائمة أشهر المنازل المسكونة في الولايات المتحدة، وبالفعل توجد العديد من القصص التي تدور حول أشباحه، البعض منها يزعم بأن سارة كانت على اتصال بأشباح المنزل خلال حياتها، وان هناك غرفة سرية كانت تستخدم لتحضير الأرواح. أما اليوم فبعض الحكايات تتحدث عن عزف بيانو رائع ينساب أحيانا في جوف الليل من مكان مجهول داخل المنزل، البعض يؤمنون بأنه عزف الأرملة ونشستير، لأنها كانت عازفة بيانو بارعة في شبابها، وربما أصبح شبحها بعد الموت يعزف موسيقاه الحزينة للأرواح والأشباح التي كانت تطاردها في حياتها !!

خليجية خليجية خليجية خليجية خليجية خليجية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.