لقاء الائمة ابو حنيفة ومالك
تقابل الإمامان مالك (وكان يسكن المدينة) وأبو حنيفة (وكان يسكن العراق) في الحج إحدى السنوات، وكان الإمامان صاحبا مدرستين مختلفتين، فمالك لم يكن ممن يخوضون في المسائل التي يستحيل أن تقع لنهي الرسول صلى الله عليه وسلم عن ذلك، أما أبو حنيفة فكان يشجع تلاميذه على السؤال عن المسائل التي لم تقع حتى أُطلق على أتباعه " الأرأيتيين ". فلما التقيا، حدثت بين الإمامين مناظرة رائعة وراقية دارت حول 3 قضايا.
القضية الأولى:
تحدثا في البداية حول السؤال عمّا لم يقع، أي ماذا تقول عن شيء لم يحدث أصلاً، فكانت وجهة نظر الإمام مالك هي عدم السؤال عمّا لم يقع وعدم اختراع أحداث وهمية، بل التحدث عن الحقائق التي حدثت بالفعل لكي لا يُشغل الناس ويدخلون في الجدل، وكان سنده في ذلك قول الله تعالى: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ …) البقرة189. وكان الإمام مالك يقول أن عمر بن الخطاب لعن من يسأل عما لم يقع، وكان يقول أيضاً: "لا تشغلونا بأشياء لم تحدث، اشغلونا بما نحن فيه، لينشغل الناس بالحق، ولا نضيع وقتنا". لذلك أسس الإمام مالك قاعدة في مذهبه تقوم على أن كل مسألة لا ينبني عليها عمل فالكلام فيها من الجدل الذي نهينا عنه شرعا.
يُروى أن رجلاً جاء إلى الإمام مالك وسأله: أرأيت أنني كنت أسير في الطريق، فوجدت دجاجة ميتة ودست عليها، فخرجت منها بيضة، فأخذت البيضة، فسقطت فخرج منها كتكوت، هل يجوز أن أذبحه وآكله؟ فقال له الإمام مالك: أعراقي أنت؟ فقال الرجل: نعم، فقال الإمام مالك: هذا فعل أبي حنيفة، وقال: سلوا عمّا يقع، لا تسألوا عمّا لا ينفع. ويُروى أيضاً أن رجلاً جاء إلى الإمام مالك وقال له: أرأيت إذا قال رجل لرجل: يا حمار، ماذا يفعل به؟ قال: يجلد تأديباً، فقال له: أرأيت إذا قال له يا حصان؟ فقال: تجلد تأديباً لأنك عراقي.
أما فقه أبي حنيفة فكان الفقه التقديري، أي اختراع المسائل، ففي فقه أبي حنيفة هناك ستون ألف مسألة لم تحدث. لذلك قال الإمام مالك للإمام أبي حنيفة: أنت تدخل الناس في جدل، فرد أبو حنيفة وقال له: يا مالك، الأمر عندنا في العراق ليس كعندكم في المدينة، يا مالك، العراق عاصمة الخلافة وكل يوم يحدث جديد، والقضايا متجددة، والانفتاح على العالم غير عندكم، ولابد أن نستعد له بالفقه كي يعلم الناس إذا حدث حادث جديد ماذا يفعلون. فقال مالك أعطني مثالاً، فقال: جلست أنا وتلاميذي نتحدث: لو امرأة متزوجة وزوجها سافر وغاب، فظنت أنه مات، وتزوجت شخصاً آخر، ثم رجع زوجها الأول، ماذا تفعل؟ فقال مالك: لم تسألون في أشياء لم تقع؟ فقال أبو حنيفة: يا مالك عندنا في العراق يخرج المجاهدون للغزو كل يوم، ويحدث ذلك، ويغيبون عن أسرهم، فنريد أن نستعد لنعلم ما الذي يحدث، فسكت مالك، فقال له أبو حنيفة: ألست تروي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم عندما جاء رجل إليه وسأله: يا رسول الله، أرأيت إن جاء رجل يأخذ مالي؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: لا تعطِه، فقال له: أرأيت إن قاتلني؟ قال: قاتله، قال: أرأيت إن قتلني؟ قال له: أنت شهيد، قال: أرأيت إن قتلته؟ قال: هو في النار، قال: كيف يا مالك تقول هذا والنبي يسأل أربع مرات، أرأيت؟! فقال له مالك: ولكنها لفائدة، فقال له أبو حنيفة: وعندنا في العراق لفائدة.
القضية الثانية:
القضية الثانية التي تحدثا عنها كانت الإجماع، فعندما يوجد قضية يُراد معرفة أهي حلال أم حرام وليست في القرآن ولا في السنة فإنه يتم الأخذ برأي إجماع المسلمين، وهنا حدث اختلاف بين الإمامين، فمالكٌ يرى الأخذ بالإجماع الذي يقوله أهل المدينة لأن النبي صلى الله عليه وسلم شرع للصحابة وعاش في المدينة وكل التشريع تم في المدينة ومات النبي وترك الصحابة في المدينة وترك تسع زوجات يحكين كل شيء فعله النبي في المدينة، وكان في المدينة عشرة آلاف صحابي عاشوا مع النبي صلى الله عليه وسلم، ولذلك ما يقوله أهل المدينة هو الإجماع، وكان الإمام مالك يقول: أفمن مات عنده واحد أو اثنان من الصحابة كمن مات عنده عشرة آلاف؟
يُروى أن رجلا أتى الإمام مالك وسأله: ماذا أصنع في الأمور المختلف عليها؟ فقال له الإمام مالك: ابحث عن رأي أهل المدينة، فإذا وجدت رأي المدينة فلا تشك أنه الحق، وجاءه رجل آخر وسأله: أين أجد العلم؟ فقال: تجده في المدينة، إن القرآن لم ينزل في الفرات.
أما أبو حنيفة " والذي كان يكبر مالكاً بثلاث عشرة سنة" فقال له: يا مالك، إن الفتوحات في زمن عمر بن الخطاب وزعت الصحابة على كل البلاد، وأنت تقول في المدينة عشرة آلاف، فكم عدد الصحابة يا مالك؟ وكان عدد الصحابة في آخر غزوة للنبي صلى الله عليه وسلم حوالي مائة وعشرين ألفاً، فأين الباقي يا مالك؟ فقال له مالك: في البلاد، فقال له: يا مالك، أتنكر أن عمر بن الخطاب أرسل الصحابة خصيصاً ليعلموا أهل البلاد؟ أتنكر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أعلم أمتي بالحلال والحرام هو معاذ بن جبل فأرسله إلى اليمن؟ أتنكر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: من أراد أن يقرأ القرآن فليقرأه على قراءة ابن مسعود، فأرسله عمر بن الخطاب إلى العراق؟ أتنكر هؤلاء؟! وبدأ أبو حنيفة يعدد أسماء العلماء الذين أوصى النبي صلى الله عليه وسلم أن يؤخذ العلم منهم، كابن مسعود وعلي بن أبي طالب في العراق، ومعاذ بن جبل في اليمن، وال.::[ مايلفظ من قول الا لديه رقيب عتيد ]::.ر بن العوام وسعد بن أبي وقاص في مصر، وأبي عبيدة بن الجراح وأبي الدرداء وبلال في الشام، أتنكر هؤلاء؟ أليس عندهم علم؟ أليس من العظمة أن يرسل عمر الصحابة في البلاد، ويترك في المدينة كثيراً من الصحابة؟ وبدأ أبو حنيفة يذكر الأحاديث: أرحم أمتي بأمتي أبو بكر، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل، وأعلمهم بالفرائض زيد بن ثابت، وأعلمهم بالقرآن ابن مسعود، وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح، فكان توزيعهم في البلاد لتتكامل علوم الأمة.
القضية الثالثة:
أما القضية الثالثة فكانت مدرسة الرأي ومدرسة الحديث، فأبو حنيفة يتوسع، فالحديث الواحد يخرج منه مائة فائدة، أما مالك فيرى أن هذه مبالغة وهذا تحميل للحديث فوق معناه، وتأويل عن النبي صلى الله عليه وسلم ما لم يقله، فرد أبو حنيفة وقال: يا مالك، انظر إلينا مرة أخرى في العراق، نحن في العراق دخلت علينا فلسفة اليونان وفلسفة الروم وفلسفة الفرس، وأنا أريد أن أثبت الناس على منهج النبي صلى الله عليه وسلم، فأبحث في الحديث عن كل ما أجد به الردود على هؤلاء، وأنت في المدينة عندك الصحابة والتابعون فلست بحاجة للتوسع، أما في العراق فيجب أن أصد كل تلك الهجمات، ولذلك يجب أن أتوسع.
الإمام مالك بعد لقائه بأبي حنيفة:
بعد اللقاء سئل الإمام مالك: كيف وجدت أبا حنيفة؟ فأخرج مالك منديلاً ومسح عرقه وقال له: عرقت والله من أبي حنيفة، والله إنه لفقيه، والله ما رأيت أحداً يناظر كهذا الرجل، والله لو قال لكم أن هذا العمود من الحديد ذهب لأقنعكم برأيه. وسئل أبو حنيفة فقال: ناظرت المئات من الرجال، ما رأيت أحداً أسرع في قبول الحق من مالك، والله لقد أحببته.