
ولتوضيح القوة الفريدة لهذه السمة الإنسانية، خرج غلادويل بنظرية شهيرة بناها على ما اعتقد أنه السبب وراء تحطم طائرة ركاب كورية في الثمانينات والتسعينات. ففي كلا الحادثتين، انحرفت الطائرة عن مسارها وسط الغيوم الثقيلة واصطدمت مباشرة بالجبل من دون نجاة أي من الركاب. وقد أرجعت تسجيلات قمرة القيادة سبب الحادث إلى أن مساعد الطيار كان على علم بانحراف الطائرة عن مسارها لكنه لم يتمكن من مواجهة الكابتن بتلك الحقيقة.
يسهل تطبيق الأمانة الفكرية عندما لا نشعر بوجود من يراقبنا، لكن الأمر يختلف كلياً عندما يكون هناك من حولنا، خاصة عندما يكون من يراقب سلوكياتك هو رئيسك في العمل.
لا توفر العديد من الشركات اليوم بيئات عمل تشجع الموظفين على الإفصاح عن رأيهم وإبدائه بكل حرية. بل تجاهر تلك الشركات بأن الآراء التي توليها الاهتمام الفعلي هي آراء كبار المديرين حصرياً.
ويسود هذا الفكر، بوجه خاص، في منطقة الشرق الأوسط، حيث تكون ثقافة الشركات مشبعة بجملة من المؤثرات التي تتنوع بين الإيجابية، التي تساهم في تعزيز نمو المؤسسة وتطورها، وغير الإيجابية، ونأخذ مثالاً على ذلك «الواسطة»، أي استخدام اسم العائلة أو المعارف والعلاقات للحصول على وظيفة أو الارتقاء بالمسيرة المهنية.
الواسطة لا علاقة لها بالتدرج الوظيفي؛ بل تدور حول التحقيق الذاتي والسبل التي اعتمدها الموظف لبلوغ هذه الغاية. وبعبارة أخرى: هل كان نجاح الموظف ثمرة كفاحه واجتهاده أم نتيجة تدخل معارفه وصلاته العائلية أو الشخصية؟
غالباً ما نجد الموظفين، الذين تم تعيينهم بالواسطة لا يعملون بجد، إلا أنه تتم ترقيتهم بشكل روتيني، حتى في ظل انخفاض إنتاجيتهم أو انعدامها. يحدث كل هذا على مرأى ومسمع بقية الموظفين الذين لم يتم التوسط لهم، فيؤدي هذا إلى انقسام القوى العاملة، وإحباط الروح المعنوية وتراجع في مستوى الإنتاجية بين العاملين. وبعبارات مبسطة ان الواسطة هي هدر للطاقة، والأفكار، والموارد البشرية، وبالتالي هي هدر لامكانات تطور الشركة.
نرفض في شركة صناعات الغانم مبدأ الواسطة، فلدينا سلم وظيفي على غرار سائر المؤسسات، لكننا لا نرسم خطاً أحمر بين الموظفين المبتدئين وكبار الموظفين، بل نؤمن بقوة الأفكار الجديدة، بغض النظر عن مصدرها. أما الترقيات، فلا تُمنح بل تُكتسب بالعمل والاجتهاد.
وبعبارات أخرى، نطبق في شركتنا مبدأ «الجديروقراطية» Meritocracy، وهو نظام ترقيات يعتمد على مقدرة الفرد وعطائه وجدارته، أي أننا نشجع موظفينا على التفكير والإبداع والتعاون بحرية وشفافية من دون أي قيود مصطنعة. فالآراء التي يتقدم بها موظفونا يتم النظر فيها وتقييمها بناءً على جدارتها لا على هوية من تقدم بها.
هذا هو مفهوم «الجديروقراطية» الحقيقي: إتاحة الفرصة أمام الموظفين للارتقاء بمسيرتهم الوظيفية على أساس افكارهم وإسهاماتهم، لا بناءً على معارفهم أو أصلهم.
تجد بعض الشركات الزميلة في الشرق الأوسط صعوبة في استيعاب هذا المفهوم. وتراهم يتساءلون: لماذا نسمح أو حتى نشجع الاستقلالية الفكرية بين العاملين لدينا، لا سيما بين موظفينا الشباب؟! كما يرغبون في معرفة لماذا يقوم نظام الترقيات والمكافآت الذي نتبعه على مبدأ الجدارة والاستحقاق بدلاً من صلات القرابة أو العلاقات الاجتماعية؟
وبكل بساطة أجيبهم: يحدد مستوى المؤسسات من خلال مستوى كفاءة موظفيها. لهذا نخصص الكثير من وقتنا لتعزيز ثقافة تحتضن أفضل الكفاءات وألمعها، وتحرص على تقديرها ومكافأتها. نتوقع ونطلب الكثير من العاملين لدينا لكننا نقدم لهم شيئاً في المقابل، وهو إتاحة الفرصة أمامهم للوقوف بكل شجاعة للمشاركة الفاعلة في كل ما يخص مستقبل الشركة ومستقبلهم على حد سواء، ونسعى لكي نحقق فرقاً في حياتهم وحياة أبناء مجتمعهم، مع الحرص على مكافأتهم.
يوضح مالكوم غلادويل، المنظر الكبير وكاتب كتاب outliers، خلال نظرياته الأسباب الكامنة وراء النجاح، حيث يصرح بأن الشجاعة الفكرية هي من أساسيات نجاح الفرد. وأنا أوافقه الرأي، لا بل أعتقد أنه قوة مهمة تدفع بعجلة الابتكار والإبداع داخل المؤسسات. فهاتف الآيفون لم يحرز النجاح الباهر الذي شهده عبر العالم، لأن المهندسين والمصممين في شركة أبل ساروا في اتجاه التيار. هذا الهاتف تفوق على سائر الأجهزة الأخرى، لانهم تجرأوا على تغيير الوضع وإعادة ابتكاره.
الأمر مماثل بالنسبة لشركة جنرال الكتريك GE، التي لم تصبح مرجعاً عالمياً لتدريب جيل المستقبل من الرؤساء التنفيذيين، لأنها وضعتهم تحت مراقبتها الدقيقة وتحكمت بتفاصيل عملهم، بل حققت هذه المكانة المرموقة، لأنها نجحت في إشاعة ثقافة مؤسساتية تمكنت من إلهام الموظفين وتشجيعهم ودفعهم قدماً لتحقيق المزيد من الإنجازات وإعطاء أفضل ما لديهم.
نفخر بمؤسستنا لأنها تسعى جاهدة في سبيل تغيير الواقع بأسلوب خاص، وأن نظام الإدارة القائم على الجدارة والاستحقاق كان ومازال وسيبقى جزءاً لا يتجزأ من ثقافة شركتنا.
عمر الغانم
الرئيس التنفيذي لشركة صناعات الغانم