قال تعالى: {وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ * الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ}.. [الشعراء : 151 – 152].
ولا عجب، فالإسراف – على حد قول الشيخ أحمد محي الدين العجوز في كتابه ((معالم القرآن في عوالم الأكوان)) – هو علة زائفة وخطيئة جارفة، يأتي بالضرر البالغ، والأذى الزائد، فتختل به الموازين وتضطرب به المقادير، فينقلب الخير شرًا، والنفع ضرًا، فهو شر الأمور على الإطلاق، سواء أكان ذلك في الأقوال أو الأفعال، فالسعيد العاقل مَنْ هجره ومحا عنه أثره.
الإسراف هو تجاوز حد الاعتدال في أي شيء من شؤون الحياة وقد جعل الله هناءة الحياة في التنقل بين أضداد الحياة التي هي ليل ونهار ونوم ويقظة وحركة وسكون وتعب وراحة وجوع وشبع وأكل وشرب وبطء وسرعة وأمل وحذر. فإذا أخذ الإنسان من هذا لهذا بقدر الضرورة من غير مبالغة كان الاعتدال المحمود والتوسط المطلوب وإذا بالغ في الإقلال أو الإكثار ودخل في حدود الضرر كان الإسراف.
وقد تحدث عن الإسراف أساطين العلم وأرباب الحكمة، اهتداءً بآيات القرآن العزيز وأحاديث المصطفى وآثار السلف وأقوال الحكماء والبلغاء وأمثال العرب فبينوا أضرار الإسراف.
فالأطباء نصحوا بعدم الإسراف في الأكل والشرب حفاظًا على الصحة، وأهل الرأي نصحوا بعدم الإسراف في الأمل أو الحذر، كي لا تفوت الفرصة وأهل الاقتصاد نصحوا بعدم الإسراف في البذل والإنفاق كي لا يضيع المال وينفد، وأرباب التربية نصحوا بعدم الإسراف في الشدة أو اللين حتى لا تفوت الفضيلة، وأهل الاجتماع نصحوا بعدم الإسراف في المدح أو الثناء حتى لا تكون الغطرسة.
لقد قبّح القرآن الكريم الإسراف وحمل عليه وهدد المسرفين وأنذرهم بشر مآل وسوء حال. يقول عز وجل {إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ}.. [غافر : 28]. ويقول سبحانه {وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ}، ويقول تعالى: {كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ}.. [غافر : 34].
ويقول عز وجل في البذل والإنفاق {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا}.. [الفرقان : 67] وقال سبحانه {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا}.. [الإسراء : 29].
وفي الأكل والشرب، يقول تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ}.. [الأعراف : 31]. وهذه الآية كما قال علماؤنا جمعت قوام الطب كله.
إن الإسراف في الأكل يعطل الهضم ويفسد المعدة ويطفئ حرارتها ويوهن الأعصاب ويحبس الغازات في البطن ويضيق النفس ويولد الأمراض ويحدث الإمساك، ولهذا قيل: المعدة بيت الداء والحمية رأس الدواء.
روى النسائي والترمذي عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قوله: (ما ملأ ابن آدم وعاءً شرًا من بطنه، حسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه، فإن كان لا محالة، فثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفسه).
والإسراف في الشرب يخل بحركة الهضم ويولد الإمساك في المعدة، ويورث وجع الرأس ويحدث التخمة.
فمن الإسراف تجاوز المزكي بالعطاء الكثير يوم الحصاد، وكذا الغلو في الدين إسراف.
وهكذا يكون الإسراف خروجًا عن حدود التوسط والاعتدال ويأتي بالمضرة الفادحة ويسبب الشقاء والتعاسة وهو من السيئات الفادحة والأوصاف الفاضحة، التي يُطلب الاستغفار منها والإقلاع عنها..