تخطى إلى المحتوى

القوامة الزوجية سلطة غير مطلقة

القوامة الزوجية سلطة غير مطلقة

بسم الله الرحمن الرحيم
قوامة الزوج على زوجته مسؤولية قبل أن تكون ميزة وفضيلة، فالقوامة إن لم ترتبط بالعدل والإنصاف فَقَدَت منحتها، وبقيت تبعتها، وهي وإن كانت رفعت الزوج على زوجته؛ فإن مقتضيات هذه الرفعة تتجسد في المودة والرحمة؛ التي تقوم عليها الحياة الزوجية السعيدة، لكن الإشكالية في القوامة ليس مفهومها العام؛ وإنما التفاصيل التي يكمن الشيطان فيها، ليحرفها عن سواء الصراط، ويتلاعب بالجاهل لكي يخفق في التطبيق، ويسقط في مستنقع الجور، الذي لا نجاة منه.

قال تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللّهُ} [النساء:34].
يروى في سبب نزول هذه الآية أن سعد بن الربيع رضي الله عنه أغضبته امرأته فلطمها، فشكاه وليها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، كأنه يريد القصاص، فأنزل الله تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء}، فقال وليّ المرأة: "أَرَدّْنا أمرًا الله غيره، وما أراده الله خير"، ورضي بحكم الله تعالى؛ وهو أن الرجل قوامًا على المرأة؛ يرعاها ويربيها ويصلحها؛ بما أوتي من عقل أكمل من عقلها، وعلم أغزر من علمها -غالبًا-، وبُعد نظر في مبادئ الأمور ونهاياتها أبعد من نظرها، يضاف إلى ذلك أنه دفع مهرًا لم تدفعه، والتَزَم بنفقات لم تلتزم هي بشيء منها.
فلما وجبت له الرئاسة عليها؛ وهي (رئاسة شرعية) كان له الحق أن يؤدبها بما لا يشين جارحة أو يكسر عضوًا، فيكون ضربه لها كضرب المُؤَدِّب لمن يؤدبه ويربيه، وبعد تقرير هذا السلطان للزوج على زوجته أمر الله تعالى بإكرام المرأة والإِحسان إليها والرفق بها؛ لضعفها، وأثنى عليها فقال تعالى: {فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ} [النساء:34] [أيسر التفاسير للجزائري:1/258 بتصرف].
{الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء} أي: قائمون عليهن قيام الولاة على الرعية، في الإنفاق والرعاية والتعليم، ذلك لأمرين: أحدهما وهبي، والآخر كسبي؛ فالوهبي: هو تفضيل الله لهم على النساء بكمال العقل، وحسن التدبير، ومزيد القوة في الأعمال والطاعات، ولذلك خُصوا بالنبوة، والإمامة، والولاية، وإقامة الشعائر، والشهادة في مجامع القضايا، ووجوب الجهاد والجمعة، والتعصيب، وزيادة السهم في الميراث، وملك الطلاق. والكسبي هو: {بِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ} [النساء:34] في مهورهن، ونفقتهن، وكسوتهن.
ولقد ورد النظم الكريم {بِمَا فَضَّلَ الله بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ} ولو قال: "بما فضلهم عليهن"، أو قال: "بتفضيلهم عليهن" لكان أوجز وأخصر، ولكنّ التعبير يورد بهذه الصيغة لحكمة جليلة، وهي إفادة أن المرأة من الرجل والرجل من المرأة بمنزلة الأعضاء من جسم الإنسان، فالرجل بمنزلة الرأس، والمرأة بمنزلة البدن، ولا ينبغي أن يتكبر عضو على عضو لأن كل واحد يؤدي وظيفته في الحياة، فالأذن لا تغني عن العين، واليد لا تغني عن القدم، ولا عار على الشخص أن يكون قلبه أفضل من معدته، ورأسه أشرف من يده، فالكل يؤدي دوره بانتظام، ولا غنى لواحدٍ عن الآخر.
ثم للتعبير حكمة أخرى وهي الإشارة إلى أن هذا التفضيل إنما هو للجنس، لا لجميع أفراد الرجال على جميع أفراد النساء، فكم من امرأة تفضل زوجها في العلم، والدين، والعمل.
وقال بعض أهل العلم: "من روائع البيان القرآني أنه لم يقل: "بما فضلهم على النساء"، بل قال: {بِمَا فَضَّلَ الله بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ}، أي أن الرجل مُفَضَّل من بعض الأوجه، والمرأة مُفَضَّلة من أوجه أخرى، كالجانب العاطفي، والرجل هو الذي يدفع المهر، ويؤسس البيت، وينفق عليه".
* وقفات وتنبيهات:
القوامة مشروطة بالإنفاق؛ فإذا كانت الزوجة هي التي تنفق على الزوج فهي تشاركه القوامة، وصحيح أن الله فضله عليها بأشياء جِبِلِّية، لكن هي تشارك بالإنفاق عليه من أموالها، فَلِكَي يكون الرجل تام القوامة على امرأته لا بد أن يكون هو الذي ينفق، وهو الذي يرشد ويوجه، أما إذا شاركت هي بشيء فهذا جائز لقول الله تعالى: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} [النساء:4]، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم لزينب امرأة عبد الله بن مسعود: «زوجك وولدك أحق من تصدقتي عليهم» (صحيح البخاري؛ برقم:1462)، فإذا شاركت الزوجة في النفقة فقد شاركت الزوج في القوامة، وصارت قوامته عليها غير كاملة.
– هناك مساحة أخرى من القوامة تحتاج إلى وقفة؛ وهي (قوامة الرعاية والاهتمام)؛ وهي هنا واجب وليست حقًا، بمعنى أن الزوج القائم على زوجته يرعاها، ويحنو عليها، ويتفقد احتياجاتها النفسية، ويوفر لها الأمان، وهو عندئذ يكتسب مكانة معنوية عندها تعطيه حقوقًا وصلاحيات إضافية، وهذه لم يكتسبها بالإنفاق، وإنما بالرعاية وحُسن الخلق والقوة والأمانة.
– الزوج هو ربان السفينة الزوجية المسc,ل عنها؛ فهو رب البيت، وهو من له القوامة، ولكن عليه أن يوازن بين قيادته للأسرة، وبين التشاور مع زوجته باعتبارها نصفه الآخر، وعليه أن يكون وسطًا؛ فلا يتسول القوامة، ولا يرفض على زوجته رأيًا لمجرد الرفض البحت، أو يجعل من التشاور مسألة شكلية، فقرارها مشطوب، ومشورتها من باب رفع العتب.
– من المهم البعد عن استخدام أبجديات (الحقوق والواجبات)؛ حتى لا تتحول العلاقة التي أساسها المودة والرحمة، إلى مؤسسة عسكرية أو اقتصادية، وعلى الطرفين أن يؤديا واجباتهما، ويراعيا حقوقهما في إطار من الود والتفاهم.
– السعادة الزوجية تقوم على التشخيص الصحيح، والعميق للمشاكل، والبعد عن التفسير السطحي المهوس بمظهر العناد وفرض القوة؛ فالأمر لا يتعلق بصراع إرادات، يحاول كل طرف أن يفرض إرادته.
– عند الاختلاف فالرجل له القوامة، ولكن القوامة لها حدود؛ وهي أن تطيعه الزوجة بالمعروف شرعًا وعرفًا، والبعد كل البعد عن التعامل بندية وعن التحدي.
* الوجه الكالح.
من الغريب أن يستغل بعض الأزواج منحة القوامة فيقلبها محنة، فالتفضيل لا يكون بأي حال من الأحوال ذريعة للظلم والقهر، مما لا يرضاه الله تعالى ويتوعد فاعله بأليم العقاب.
فهل من القوامة أن يضغط الرجل على زوجته ليسترد المهر! أو لكي تتنازل عن مؤخر صداقها! أو يصادر راتبها! أو يقتر عليها لتستنزفه في متطلبات البيت؟!
وهل من القوامة أن يحجبها عن أهلها! ويقطع رحمها! ولا يترك مساحة للتواصل بالمعروف؟!
وهل من القوامة أن يقتحم كل خصوصياتها! ولا يترك لها متنفسًا في اختيار حتى الصديقات! ويراقب بريبة مكالماتها! أو يفتش في أغراضها دون مبرر منطقي سوى حب التسلط وتفريغ عقد الذكورة لديه؟!
وهل من القوامة أن تقدس رغبات الزوج على كل رغبة للزوجة أو الأولاد؟!
وهل من القوامة أن يحتكر الزوج القرارات والتصرفات ولا يقبل مشورة أو يستمع نصحا؟!
إن القوامة تعني (الرجولة) بمعنى الكلمة، بما فيها من الفضل قبل العدل، واحتضان وتحمل مسؤولية، وبذل وعطاء، وربما تنازلات أحيانًا، القوامة تعني تكامل الأدوار، وتناغم الأهداف، وتشارك وتآزر وتآلف.
القوامة تعني تقدير الطرف الآخر لا إلغائه، فمن الجميل أن نترك للزوجة الحرية في ترتيب بيتها، واختيار الألوان، ومتطلبات الديكور، خاصة وأن النساء يتمتعن في هذا المضمار برقة عالية؛ لطبيعتهن الحساسة، ومن المعروف أن نترك للزوجة مساحة لممارسة الهوايات، والترويح عن نفسها، بما يناسب طبيعتها وميولها كأنثى، فليس من الإنصاف أن يُرَوِّح الزوج عن نفسه عند تأزم نفسيته مع الأصدقاء والأقرباء، والزوجة المسكينة أسيرة الأولاد، ومشاكلهم، وكأنها لا تتأزم، ولا تملك مشاعر.

كيف يجعل بعض الأزواج القوامة كارت أحمر يشهره في وجه زوجته وأولاده كلما ناقشه أحدهم، أو راجعه في أمر ما، وكيف يتخذ البعض القوامة قنطرة للوصول إلى رغباته ونزواته، دون مراعاة لحقوق باقي أفراد السفينة الزوجية، بل يُهمش مشاعرهم ويحقر آرائهم، ويسفه أحلامهم، وقد قال صلى الله عليه وسلم: «اللهم من ولي من أمر أمتي شيئًا فشق عليهم فاشقق عليه» (أخرجه مسلم).
فالحذر الحذر من مشقة تُطال ربان السفينة، وتعصف بالحياة الزوجية؛ التي هي من أسمى وأنبل وأطهر العلاقات الإنسانية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.