ونحن في ذكرى ميلاد سيدنا ومولانا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، هيَّا بنا نشرب من رحيق آية من كتاب الله ، ما به نفعنا في الدنيا ورفعتنا يوم لقاء الله ، فكتاب الله الذي أنزله إلينا فيه الهُدى والنور وفيه الشفاء لما في الصدور وفيه الخير والسعادة لنا وللناس أجمعين ، نأخذ منه قبساً من آية واحدة قال الله فيها: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} الأحزاب21
إن مجال الأسوة واسع جداً ، فالأسوةتعني القدوة وتعني التشبه برسول الله صلى الله عليه وسلم ولما كان هذا المجال كبير جداً فإننا نكتفي بذكر مثال واحد من حياته صلى الله عليه وسلم ، كان عليه مدار أمره كله وبه ارتفع شأن هذا الدين وبه تجاوزت دعوته الخافقين وبه أوصل الله هذا النور لجميع عوالم الله ، ما هذا المبدأ؟
يتضح لنا هذا المبدأ عندما نعلم أن كفار قريش كانوا في ناديهم بجوار الكعبة يتحدثون في شأنه صلى الله عليه وسلم ، وقد احتاروا في أمره وشلَّ تفكيرهم عندما أخذوا يخوضون في أمثل طريقة للقضاء عليه وإنهاء دعوته ، وقد رأوا أن ذلك الأذى لم يُجْدِهم نفعاً ، بل كلما زادوا المسلمين أذىً ازداد يقينهم ، فاجتمعوا للشورى فيما بينهم
{فقال لهم عتبة بن ربيعة وكان سيداً مطاعاً في قومه: يا معشر قريش ألا أقوم لمحمد فأُكلِّمه وأعرضُ عليه أموراً علَّه يقبل بعضها فنعطيه إياها ويكفَّ عنّا؟ فقالوا: إفعل ، فذهب إلى رسول الله وهو يصلي في المسجد ، وقال: يابن أخي إنك منّا حيث قد علمتَ من خيارنا حسباً ونسباً ، وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم فرَّقْتَ به جماعتهم وسفَّهتَ أحلامهم وعِبتَ آلهتهم ودينهم وكفَّرت من مضى من آبائهم فاسمع مني أعرض عليك أموراً تنظر فيها لعلّك تقبل منها بعضها
فقال عليه الصلاة والسلام: قل يا أبا الوليد أسمع ، فقال: يا ابن أخي إن كنتَ تريدُ بما جئتَ به من هذا الأمر مالاً جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً ، وإن كنتَ تُريد شرفاً سوّدناك علينا حتى لا نقطعَ أمراً دونك ، وإن كنتَ تُريد مُلكاً ملكناكَ علينا ، وإن كان هذا الذي يأتيك رَئّياً من الجن لا تستطيع ردّه عن نفسك طلبنا لك الطب وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرئك منه
فقال عليه الصلاة والسلام: «فقد فرغتَ يا أبا الوليد؟» قال: نعم ، قال: فاسمع مني ، فقرأ عليه صلى الله عليه وسلم من أول سورة فصلت: {بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ حم{1} تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ{2} كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ{3} بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ{4}
ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها فقرأها عليه وقد أنصت عتبة لها وألقى يديه خلف ظهره معتمداً عليهما يسمع منه ، ثم انتهى صلى الله عليه وسلم إلى قوله تعالى: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ}
فأمسك عتبة على فيه وناشده الرحم أن يكف عن ذلك ، فقال له: قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت فأنت وذاك ، فقام عتبة إلى أصحابه ، فقال بعضهم لبعض: أحلف لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به
فلما جلس إليهم ، قالوا: ما وراءك يا أبا الوليد؟ قال: ورائي أني سمعت قولاً والله ما سمعت مثله قط ، والله ما هو بالشعر ولا بالسحْر ولا بالكهانة ، يا معشر قريش أطيعوني فاجعلوها لي ، خلوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه فاعتزلوه ، فوالله ليكونن لقوله الذي سمعت منه نبأ ، فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم ، وإن يظهر على العرب فملكه ملككم وعزه عزكم وكنتم أسعد الناس به ، قالوا: سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه ، قال: هذا رأيي فيه ، فاصنعوا ما بدا لكم}{1}
ولكن القوم لم ييأسوا فذهبوا إلى عمه أبي طالب وعرضوا عليه هذه الأمور وطلبوا منه أن يَحُمل ابن أخيه على واحدة منها ، فلما كلَّمه عمه كان جوابه صلى الله عليه وسلم: {يَا عَمِّ لَوْ وَضَعُوا الشَّمْسَ فِي يَمِينِي وَالْقَمَرَ فِي شِمَالِي عَلَى أَنْ أَتْرُكَ هَذَا الأَمْرَ حَتَّى يُظْهِرَهُ اللَّهُ أَوْ أَهْلِكَ فِيهِ مَا تَرَكْتُهُ}{2}
فما جاء به رسولكم الكريم من عند الله من الهدي والنور لا يبغى به مُلْكاً ولا يسأل به مالاً ولا يطلب به جاهاً عند الناس ولا شيئاً من دنيا الناس وإنما يبغى به رضاء الله وعلى مثل هذا الأمر من الثَّبات على المبدأ ربَّى رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه
فهذا زوج ابنته العاص بن الربيع يرجع من بلاد الشام يقود قافلة كبيرة للمشركين فهداه الله للإسلام وهو في الطريق ، فدخل المدينة وقد تمكن الإيمان من شغاف قلبه ، فأشار عليه بعض ضعفاء النفوس بأنك ما دمت قد آمنت فقد حلَّت لك أموال القافلة وبضاعتها غنيمة ، فأخذته الحمِّية الإيمانية وصاح قائلاً: يا قوم ما كنت أبدأ عهدي مع الله ورسوله بالخيانة
وذهب إلى مكة وجمع أهلها وقال: يا أهل مكة ماذا تعرفون عنِّي؟ فقالوا: لا نعلم عنك إلا خيرا ً، فقال: هذه بضاعتكم وهذه أموالكم، وسلَّم كل واحد منهم أماناته ، ثم قال: هل بقى لأحد منكم شيئاً؟ فقالوا: لا وجزاك الله خيراً ، قال: أُشْهدكم يا أهل مكة إنني آمنت بالله ربَّاً وبالإسلام ديناً وبمحمد نبياً ورسولاً
فالثبات على المبدأ أساس الإيمان ، والإيمان ليس العبادات من صلاة وصيام وزكاة وحج فقط ، وإنما الإيمان جملة الأخلاق التي جاء بها الله في كتابه وجملة المعاملات التي علَّمها النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه وجملة الآداب التي ملئوا بها الأرض علماً ونوراً بعد أن كانت تزخر ظلماً وجوراً
{1} نور اليقين لمحمد الخضرى، والسيرة الحلبية وغيرها كثير مشتهر بزيادة أو نقصان
{2} سير أعلام النبلاء للذهبى ، والسيرة الحلبية وكثير غيرها
[/CENTER]