فرحان عبدالله الفرحان
عندما كنت في الطفولة أتذكر أستاذنا من مصر وهو يردد علينا قصيدة ابن الرومي «ما أنس لا أنس خبازاً مررت به»، وكان مدرسنا معجباً به، وعندما يتذكر هذه القصيدة ينظر إلى ذلك الخباز في الكويت الذي يأخذ العجين يصنع منه «كوراً» «مدلقمة» بضم الميم وفتح الدال وتسكين اللام، وفجأة يصنع من هذه المدلقمة «رقاقاً» مثل الصحن، وفجأة يضعها بالتنور، وبعد أن تنضج يخرجها قرصاً شهياً للأكل هنياً.
هذه القصيدة التي صنعها ونسجها ابن الرومي الشاعر قبل ألف ومائتي سنة عندما يذهب أحدهم إلى الخباز اليوم ويقف أمامه كأن ابن الرومي اليوم معنا، ولم يتغير شيء على هذه الخبزة والخباز العربي الأصيل التي نسميها خبزاً وخبازاً إيرانياً على أساس أكثر الذين يقومون بهذه الصنعة من أبناء إيران في تلك الحقبة، واليوم الكثير من الأفغان أيضاً.
ما أنس لا أنس خبازاً مررتُ به
يدحو الرقاقة وشك اللمح بالبصر
ما بين رؤيتها في كفه كرة
وبين رؤيتـهــــا قـوراء كــالقمــــــــر
إلا بمقدار ما تنداح دائرة
في صفحة الماء يُرمى فيه بالحجر
وإن يقض لي الله الرجوع فإنه
عليّ له ألا أفارقكم نذر
ولا أبتغي عنكم شخوصاً ورحلة
يد الدهر إلا أن يفرقنا الدهر
فما العيش إلا قرب من أنت آلف
وما الموت إلا نأيه عنك والهجر
خبز بلاد الشام
في مصر وبلاد الشام وغيرها من البلاد العربية تختلف طريقة صناعة الخبر عن هذه المنطقة، ففي بلاد الشام الخبز على الطابوق ويسمونه رغيفاً مثل العراق، وفي الكويت قرص خبز، وفي مصر قرص عيش.
ولقد تنوعت صناعة الخبز البدوي في الكويت والبلاد العربية إلى الخبز اللبناني والأرمي والصمون المستعمل في العراق. والرقاق المستعمل في الكويت وصناعة البيوت، حيث يوضع قطعة العجينة وترق وهي على «التاو» وهي قطعة من الحديد مثل القرص مستديرة وتوقد من تحتها النار وهذه العجينة بعد رقها على هذه التاوة تصبح قرصاً رقاقاً وتسمى في لهجة الكويت «خبز رقاق».
جلسات دفء
كان في الكويت من «ألذ» الجلسات عند الخباز الذي كان يصنع الخبز، حيث الدفء في فصل الشتاء، وتراه وهو يضع الجلة بعر الجمل في هذه التنبر لتستعر النار والرقاق يكون في داخله والدفء على أحسن حال.
هكذا كان في أول القرن العشرين إلى يومنا هذا، ومنذ ثلاثين سنة أدخلت إدارة المصالح في الكويت المعدات الميكانيكية التي تصنع الخبز بصورة أوتوماتيكية، وقد انتشرت في الكويت، وسدت ثغرة في هذه البلاد، ومع هذا ترى الناس لا تستغني عن خبز التنور لابن الرومي كان في البيوتات غالباً ما يحتفظون ببقية الخبز التنوري، وتجمع في المنزل، وعندما تكون هناك كمية كافية تقوم سيدة المنزل بالاتيان «بالفرقاعة» أو بقطعة من اللحم مع البصل والبذنجان، وعندما ينضج اللحم مع الخضر التي اختلطت بهذه الطبخة يأتي بالخبز المقطع اليابس الذي تركوه منذ أسبوع أو أكثر ويخلط مع هذا المرق ويقدم كوجبة غداء دسمة يسمونها «محروق صبعه»، كانوا لا يضيعون شيئاً.
التاوة
في الكويت قديماً، كانوا يعتمدون على التاوة كما ذكرت أو يعتمدون على قطعة من الفخار، ويوقدون النار تحتها، هذه كانت طريقة الكويت في القديم قبل أن يدخل الخبز التنوري الدكتور عبدالرحمن عبيد كان أن قام بشرح واسع حول صناعة الخبز في الخليج العربي، ومن ضمنه خبز التنور، ويسرني أن أنقل فقرة مما كتبه في كتابه الذكر في صفحة 11 في كتابه «الأغذية التقليدية في دول الخليج العربية»: يعتبر خبز التنور أكثر أنواع الخبز التقليدية، التي ما زالت تستهلك في جميع دول الخليج العربي، ويكثر استهلاكه بصورة خاصة في البحرين وقطر والكويت والامارات العربية المتحدة، والمنطقة الشرقية والمملكة العربية السعودية، وفي مسقط (عاصمة سلطنة عمان).
ويسمى خبز التنور عدة تسميات اخرى، أهمها: الخبز الايراني وخبز وقافي، وترجع التسمية الاولى الى ان هذا الخبز قد جلبه المهاجرون الايرانيون الى الخليج، وأصبح متداولا ويشبه بعض انواع الخبز الايراني، خصوصا ما يسمى التافتون، بيد أن خبز التنور أصغر حجما ووزنا. اما التسمية الثانية – وهي خبز وقافي، وهي شائعة في بعض مدن الامارات العربية – فهي ترجع الى ان التنور المستخدم يكون عاليا، مقارنة بالتنور الشعبي الذي يكون في الارض، لذا يضطر الخباز الى ان يقف على رجليه عند اعداد العجين والخبز في التنور.
التنور للإفطار والعشاء
يتناول خبز التنور بشكل اساسي في وجبتي الافطار والعشاء، واحيانا في وجبة الغداء. ويفضل تناوله ساخنا، لذا نجد أن معظم المخابز التي تصنع هذا الخبز تفتح في الصباح الباكر وفي المساء، وبعضها يفتح في فترة الظهيرة، لتوفير خبز التنور الطازج.
هذا هو خبز التنور الذي سجّله الشاعر ابن الرومي قبل اثنى عشر قرناً من الزمان، وكان في بغداد، وفي ذلك اليوم كان العراق وبغداد في العهد العباسي دولة عربية، وكانت ايران اليوم وفارس في القديم يغلب عليهما الطابع العربي، حيث كان البويهيون الزيود او الزيديون هم حكام ايران والعراق في تلك الحقبة.
اذاً، كان الخبز الذي مر عليه ابن الرومي في بغداد، ولم ينسه الذين يصنعون الخبز كانوا عربا، ويجب علينا ان نسمي هذا الخبز بالتنوري العربي نسبة الى ابن الرومي الذي سجلها منذ ذلك العهد، ويسرني هنا ان انقل نبذة تاريخية عن هذا الشاعر العتيد نقلا من الاعلام للزركلي يقول فيها:
ابن الرومي والخباز!
علي بن العباس بن جريج، او جورجيس، الرومي، ابو الحسن (221 – 283 هــ = 836 – 896م) شاعر كبير، من طبقة بشار والمتنبي. رومي الاصل، كان جده من موالي بني العباس. ولد ونشأ ببغداد، ومات فيها مسموما، قيل: دس له السمّ القاسم بن عبيد الله (وزير المعتضد) وكان ابن الرومي قد هجاه. قال المرزباني: لا اعلم انه مدح احدا من رئيس او مرؤوس، الا وعاد إليه فهجاه، ولذلك قلت فائدته من قول الشعر وتحاماه الرؤساء وكان سببا لوفاته. وكان ينحل مثقالا الواسطي اشعاره في هجاء القحطبي وغيره، قال المرزباني ايضا: واخطأ محمد بن داود فيما رواه لمثقال من اشعار ابن الرومي التي ليس في طاقة مثقال ولا احد من شعراء زمانه ان يقول مثلها غير ابن الرومي. له «ديوان شعر – خ» في ثلاثة اجزاء، وقد بوشر طبعه، واختصره كامل الكيلاني وسمى المختصر «ديوان ابن الرومي – ط» ولأحمد بن عبيد الله الثقفي (المتوفى سنة 319) كتاب «اخبار ابن الرومي والاختيارات من شعره» ولعباس محمود العقاد «حياة ابن الرومي – ط» ولعمر فروخ «بن الرومي – ط» ومثله لمدحت عكاش، ولحنا نمر. وللمستشرق رفون جست Rhuvon Guest كتاب «حياة ابن الرومي – ط» بالانكليزية.
عندما يأتي كبار الأدباء، ويأتي اليوم الزركلي ويقول ان ابن الرومي في مصاف المتبني طبعاً يقصد انه قبل المتنبي في الوصف، وليس الحكم، ويكفيه هذه القصيدة التي وصفناها بين يديك قارئي العزيز وهي صورة تصويرية، وكأن ابن الرومي عندما تذهب الى الخباز اليوم تظنه معنا أو جالسا بجنب الخباز، والغريب انه لم يتغير شيء من صناعة هذا النوع من الخبز منذ ذلك التاريخ الى اليوم.