في الطريق من الرشيدية عاصمة منطقة “تافيلالت”، جنوب شرق، وبمجرد اجتياز مدينة الريصاني الصغيرة، يعيش زائر المرة الأولى تلك الصدمة البصرية المتولدة عن الاصطدام فجأة بمجال طبيعي مختلف يسوده امتداد رملي فسيح، موزع بين فضاء منبسط لا تحده العين، وتلال رملية ساحرة تلمع بلونها الذهبي.
لا تتبدد هذه الصورة إلا حين تطالع العين رقع خضراء في قلب القحط والفيافي، هي واحات تزهو بأشجار نخيل سامقة محوطة بمزروعات ترويها عيون من عطاء جوف الأرض.
هكذا تبدو “مرزوكة”، دُرة المجال الصحراوي المغربي، أسطورة تحيا في الواقع، وحقيقة أقرب الى الأسطورة، بالنسبة للمغاربة والأجانب على السواء، يُقال عنها إن رمالاً يصهرها حر الصيف القائظ، لها وقع السحر الشافي من أمراض البدن، ومشهد شروق الشمس وغروبها على الكثبان الذهبية لا نظير له في الكون، ويقال أيضاً ان من يتيه في مجاهلها قد لا يعود أبداً.
جيولوجياً تنتمي “مرزوكة” إلى كتلة صحراوية تدعى “عرق الشابي”، ذي الخصوصيات الطبيعية والاثنوغرافية والتاريخية الفريدة.. هنا، على تخوم الجنوب الشرقي للمغرب، شكلت المنطقة نقطة وصول قوافل التجارة الصحراوية التي ربطت الحوض المتوسطي ببلاد أفريقيا جنوب الصحراء “تجارة الذهب، العبيد”، ففي القرن الثالث الميلادي، كانت “سجلماسة”، المدينة القديمة التي أصبحت مجرد أطلال في ضاحية مدينة الريصاني، العاصمة التجارية والروحية للمنطقة، وورد ذكرها في كتابات رحالة كبار، من أمثال ابن بطوطة، وأيون الأفريقي.
“مرزوكة” تعاند مناخها الصحراوي، ثمة حياة اجتماعية وتجربة إنسانية صامدة منذ قرون، وساكنة، متوزعة بين قرى صغيرة أو مترحلة بحثًا عن الكلأ ومصادر المياه، تعطي الدليل على قدرة الإنسان على التأقلم مع مختلف الظروف والأوضاع، وتتمسك بنمط حياتها، وإن كانت تنتظر التفاتة أكبر من الدولة لتوفير المرافق والخدمات الحيوية التي تعينهم على تقوية جاذبية المنطقة وإنمائها.
تتخذ الحركة السياحية في مرزوقة مظهرين: “سياحة استشفائية صحية بحمامات رمال، ذات طابع موسمي صيفي”، وأخرى “إيكولوجية ورياضية واستكشافية على طول أيام السنة” مع ارتفاع درجات الحرارة التي توقد سخونة الرمال، يبدأ تدفق سياح يطلبون شفاء من أمراض المفاصل المختلفة، في جوف الكثبان.
أشبه بعيادات شعبية تنتشر بالعشرات، تحت خيام صغيرة، يقيمها أبناء المنطقة العارفون بمفعول الرمل على البدن المنخور بالبرودة، تجري عمليات التأهيل الصحي في مدافن، وفق طقوس خاصة، وباحتياطات ومهارات تجعلها أبعد عن المخاطرة بالأرواح، خصوصاً أن الحرارة تحت الرمل قد تفوق الخمسين درجة.
ولأن التجارب الفردية تنتقل شفاهة بسرعة كاسحة، فإن رمال “مرزوكة” ربحت عبر السنوات مصداقية علاجية أكيدة جعلتها مقصداً للآلاف من مجمل مناطق المغرب، بل ومن بلدان عديدة.
أما الحصص العلاجية البسيطة فهي لا تكلف في عرف المعالجين المحليين المطبوعين على القناعة والبساطة والكرم، حتى وهم يكابدون شظف العيش، سوى القليل من جود الزائر.
الصيف موسم انتعاش حركة سياحية تنشط دورة اقتصادية متواضعة تتغذى على إيجار البيوت والغرف لدى الساكنة وتسويق المنتجات المحلية من صناعة تقليدية وأزياء صحراوية وإكسسوارات عتيقة.
أما في باقي فصول العام، فإن نشاطاً سياحياً مغايراً يجعل مرزوكة وجهة عالمية ولو في ظل نقص البنيات الأساسية، لعشق الصحراء فنون وألوان.
جولات موجهة بالأقدام أو على ظهور الجمال، عبر التلال الساحرة، التي يتغير لونها بين الذهبي اللامع والبرتقالي، حسب تعاقب شروق الشمس وغروبها، سباقات بالسيارات الرباعية الدفع عبر مسالك محددة يعرفها أبناء المنطقة، قوافل للدراجات النارية تمخر الكثبان في مغامرات لا تنسى.
تلك مشاهد يومية في حياة صحراء يشق سكينتها هدير المحركات.
وحيث أضحت السياحة مصدراً حيوياً لمداخيل البلدة، تنتشر عند أقدام تلال مرزوكة سلسلة من دور الضيافة والفنادق متفاوتة المستويات، وإن كانت في مجملها تقدم خدمات بأسعار في المتناول، مقارنة مع الوجهات السياحية التقليدية في المملكة.
يقول “عبد السلام صادوق”، الرجل الستيني والفاعل السياحي المخضرم: “هدفنا الأساسي أن يعودوا إلينا مرة أخرى.. قصتنا مع الزوار ليست مادية فقط بل ثقافية وإنسانية.. نحتاج أن نروي حكاياتنا وأساطيرنا، وان تسافر مع كل زائر لنا، مهما كانت جنسيته”.
الرجل الذي يملك داراً للضيافة متاخمة للتلال الرملية يتحدث بنبرة أسف على حالة البنيات الأساسية التي تعوق إقلاعاً سياحياً في المتناول، بالنظر الى مقدرات المنطقة وجاذبيتها.
يقول “صادوق” لموقع “CNN” بالعربية: “إنها مرزوقة بالقاف.. نثق في بركة هذا المكان وفي مستقبله أيضاً، ولا ننتظر الكثير من السلطات.. مد طرق معبدة وتجهيز قنوات التطهير السائل ليس بالكثير”.
والواقع أن ضعف البنيات الأساسية لا يحول دون تدفق متواصل لآلاف السياح من أوروبا بوجه خاص، ولاسيما من إسبانيا وفرنسا وغيرهما.
جاذبية المكان والشعور بالأمان والسكينة في حضن الأهالي غواية لا تقاوم.
الفقر والبطالة يدفعان شرائح من فتية المنطقة وشبابها إلى الهجرة، سواء للداخل المغربي أو إلى “الفردوس” الأوروبي، بحثاً عن آفاق أفضل للعيش، لكن ثمة من غادر ثم عاد مؤمناً بالحياة هنا في قلب الصحراء، كما عاش الأجداد.
“ناصر الناصري”، الشاب الذي طاف عبر العالم باحثاً عن ذاته ومستقبل أفضل، يخوض إلى جانب آخرين تحدي البقاء والإنماء، بلا أي دعم مؤسساتي، وبتشارك مع نظراء له من الفاعلين السياحيين هنا، يدير ناصر مهرجاناً دولياً لموسيقى العالم.
عند سفح واحدة من أعلى تلال “مرزوكة”، تنتصب للعام الثالث على التوالي منصة فنية مفتوحة على مجال رملي، مقترحة باقة متنوعة من التعبيرات الفنية المحلية والغربية، العربية والأمازيغية، موسيقى الطوارق وأهازيج الأطلس ورقصات شرقية وإيقاعات الفلامنكو وغيرها، كل ذلك في إطار مشهد يكرس، على حد قول “الناصري”، هوية المنطقة كملتقى للثقافات والحضارات عبر التاريخ.
المهرجان مبادرة طوعية تكلف الكثير لكنها تعكس إصرار طاقات محلية على وضع بلدتهم الصحراوية الهادئة على الخريطة.
يقول “ناصر” للموقع: “منذ صبيحة إسدال الستار عن المهرجان، نفكر في كيفية سداد الديون التي تطوقنا، لكن لا شيء سيمنعنا من مواصلة المشروع متسلحين بقناعة أن مرزوكة تستحق أن تسافر عبر العالم، وأن يحج إليها العالم”.
“مرزوكة” سيرة مكان يختزن كل أسرار وفتنة الصحراء، يدعو الغرباء لتجديد الصلة مع عالم البساطة والسكينة والعودة إلى الجوهر الإنساني، ويحكي قصة إرادة الانتماء إلى الأرض وإنمائها والإطلالة من خلالها على الآخر.
مرزوكة المغربية.. رمال الشفاء وفتنة الصحراء