قبل 10 سنوات تقريبا، بدأ الرئيس التنفيذي لـ«سيتي غروب» آنذاك تشاك برينس جولة اعتذار عالمية، بهدف اصلاح علاقات المصرف مع الجهات التنظيمية، وتعزيز سمعة البنك. وكانت طوكيو هي المحطة الأولى لتلك الجولة.
تورط {سيتي بنك} في فضائح أدت الى الغاء رخصته اليابانية للخدمات المصرفية الخاصة. وللاعتذار عن ذلك، قام برينس بانحناءة مصممة بعناية دامت 7 ثوان في مؤتمر صحافي، مظهرا الى أي مدى يمكن لـ«سيتي» الذهاب في سبيل حماية أعماله العالمية.
أي فرق كبير يمكن أن يحدث في 10 سنوات. ففي أكتوبر، كانت اليابان واحدة من ضمن 11 بلداً قال البنك الأميركي أنه سينسحب منها، ويلغي عملياته للخدمات المصرفية للأفراد فيها بشكل كامل، وشملت تلك الدول أيضا مصر وكوستاريكا وهنغاريا.
وكان مايك كوربات، الرئيس التنفيذي لـ«سيتي غروب»، قال للمحللين في اطار الاعلان عن النتائج المالية للبنك في الربع الثالث، والتي شملت اكتشاف فضيحة احتيال جديدة في المكسيك: «في حين أن تلك العمليات المصرفية تنطوي على قيمة حقيقية، الا أننا لا نرى مسارا لعائدات ذات مغزى».
وجاءت هذه الخطوة بعد انسحاب مبكر لـ«سيتي بنك» من عدد من البلدان شملت اسبانيا وباكستان والأورغواي. وفي المجمل، ألغى «سيتي غروب» حضوره المصرفي للأفراد الى النصف تقريبا في 24 بلدا منذ 2024. «اتش اس بي سي» الذي يعتبر المنافس الرئيسي لـ«سيتي غروب» على لقب البنك الأكثر عالمية، ينسحب هو الآخر من عملياته العالمية. فالبنك المدرج في لندن ألغى الخدمات المصرفية التي يقدمها للأفراد في أكثر من 20 بلداً، ومنها كولومبيا وكوريا الجنوبية وروسيا، مبقيا على عملياته للخدمات المصرفية للأفراد وادارة الثروات في 40 بلداً تقريباً.
وقامت بنوك أخرى بخطوات مماثلة، مثل «باركليز» الذي انسحب من الخدمات المصرفية للأفراد في اسبانبا وايطاليا وفرنسا والبرتغال. و«جي اي كابيتال» الذي يسعي لالغاء كثير من عملياته للخدمات المصرفية للأفراد في أوروبا، و«رويال بنك أوف سكوتلند» الذي انسحب من حوالي 12 سوقا.
بعد مرور ست سنوات على الأزمة المالية، لاتزال الشركات المصرفية العملاقة تتراجع. والسبب الرسمي في حدوث ذلك يدور بشكل أساسي حول الاقتصاد، حيث تترك البنوك الأسواق الأصغر حجما، بعد أن فشلت في تحقيق نطاق كاف من العمليات، أو أن تصبح مربحة بما فيه الكفاية. وكما يقول هيو فان ستينز، المحلل في «مورغان ستانلي»: «الكثير من البنوك تحلم بأن يكون لديها سلسلة من اللؤلؤ، لكنها لم تستطع أن تحقق ذلك الحلم. الأمر يدور حول تبسيط الأعمال وتركيز البنوك على الأسواق التي تملك فيها أفضلية».
تحقيق الأرباح من شبكات فروع «سيتي غروب» و«اتش اس بي سي» البعيدة بات أكثر الحاحا من ذي قبل، بعد أن أصبح المساهمون قليلي الصبر حيال تحقيق عائدات أعلى. ويضيف فان ستينز: «اكتشفت تلك البنوك أنه من الصعب جدا أن تجد تعاونا في الخدمات المصرفية للأفراد خارج الحدود».
منذ حقبة جون ريد، رئيس مجلس الادارة، الرئيس التنفيذي السابق لـ«سيتي غروب» الذي يعد مهندس استراتيجية انشاء سوبر ماركت مالي عالمي، أصبحت البنوك حاليا أكثر تركيزا على قوة كل دولة بعينها، بدلا من قبول مواقع ضعيفة لمجرد «رفع العلم»، ودعم العلامة التجارية للبنك.
يقول غلين شور، المحلل المصرفي في «أي اس أي غروب» في نيويورك: «قبل 15 أو 20 عاما كانت البنوك في وضع بناء امبراطورية، كانت عادة تلقي نظرة وتقول: ماهي الحصة السوقية بنسبة %1 – %2 في هذه الدول؟ كان الأمر يحدث دون تفكير».
بيد أن بعض البنوك تجادل بأن السبب الحقيقي وراء التراجع والانسحاب يتمثل في الكم الكبير من القوانين التنظيمية التي طلب من الصناعة المصرفية تنفيذها منذ الأزمة، وما صاحب ذلك من غرامات باهظة تفرض على أي خرق لمعايير الامتثال الصارمة.
ويقول نور ميناي، الرئيس التنفيذي لـ«سي تي بي سي بنك يو اس ايه»، والمدير التنفيذي السابق في «سيتي غروب»: الأولوية الأولى لكل من «اتش اس بي سي» و«سيتي غروب» اليوم هو البعد عن المتاعب فيما يتعلق بمشاكل مكافحة غسل الأموال والسرية المصرفية. ونظرا الى حالة هي أقرب الى الانتقام من البنوك من قبل الجهات التنظيمية اليه، من غير المنطقي أن تبقى في الدول التي تشكل خطرا كبيرا.
لبروز قوى إقليمية منافسة، ولأسباب تنظيمية، آخر عملية انسحاب قام بها «سيتي غروب» جاءت بعد الاخفاق المذل في اختبارات الجهد الذي قام به مجلس الاحتياطي الفدرالي هذا العام على أساس النوعية، والذي افترض الكثير من المراقبين حدوثه بسبب تعقيدات البنك. وكانت استراتيجية اعادة التفكير لمصرف اتش اس بي سي بدأت في 2024، عندما أصبح ستيوارت غاليفر رئيسا تنفيذيا للبنك، قبل وقت قصير على فرض غرامة قوامها 1.9 مليار دولار على البنك، وتوقيعه اتفاق مقاضاة مؤجل لانتهاكات ذات صلة بغسل أموال وعقوبات.
مع ذلك، فان حقيقة أن «سيتي غروب» قرر الاحتفاظ بفروعه الخمسين في روسيا رغم العقوبات الأميركية والأوروبية على البلاد، بسبب دورها في الصراع في أوكرانيا، يشير الى أن المخاطر التنظيمية ليست هي العامل الوحيد.
فعند الضغط عليهم يعترف بعض المصرفيين أن المجموعات العالمية الكبيرة ترمي المنشفة في وجه المنافسين المحليين الأكثر قوة الذين تعلموا من منافسيهم العالميين، واستخدموا التكنولوجيا الجديدة التي غيرت العمل المصرفي لرفع مستوى اللعبة.
وكما يقول مدير تنفيذي سابق آخر في سيتي غروب:
«البنوك المحلية لديها ميزات كبيرة، مقارنة مع البنوك العالمية الكبيرة لجهة المتطلبات التنظيمية. ما تغير هو أنها باتت قادرة على اختيار واستقطاب الكثير من المواهب من البنوك العالمية».
ومع تخندق البنوك العالمية وتراجعها، تبرز في المقابل قوى اقليمية. ففي الشرق الأوسط، هناك بنك قطر الوطني الذي وسع من شبكته للعمل المصرفي للأفراد من خلال عمليات استحواذ في أنحاء المنطقة وأفريقيا. وفي أميركا اللاتينية، استحوذ المصرفان الكولومبيان غروبو آفال وبانكولومبيا على أصول في أنحاء المنطقة. وفي آسيا هناك بنك «دي بي اس» في سنغافورة، و «آي سي بي سي» في الصين اللذان يتوسعان في الخارج.
وتتنافس البنوك العالمية على الزبون المثالي الثري الذي يرغب بنقل الأموال في جميع أنحاء العالم بسلاسة. وحقيقة أن مصرف «يو بي اس» السويسري لايزال هو أكبر مدير للثروات في آسيا يظهر أن بعض المصارف تحقق نجاحا.
ولايزال «سيتي غروب»، و«اتش اس بي سي» تتملكهما طموحات عالمية قوية. اذ لا يزالان يحتفظان بحضور في مجال الخدمات المصرفية للشركات والاستثمارات في معظم الأسواق التي ألغيا فيها عملياتهما للخدمات المصرفية للأفراد.
بيد أن الضغوط من المساهمين والجهات التنظيمية والمنافسين المحليين مرشحة للزيادة أكثر. لذلك من المتوقع أن تواصل الصناعة اعادة تشكيل حضورها الخارجي لعدة سنوات مقبلة.