هل رأيتهم وهم يلوحون لك عبر شاشة التلفزيون؟ هؤلاء العابرون بالصدفة أثناء تسجيل حي في الشارع، هؤلاء الذين يشبون على أطرافهم ليُرَوْا؟ هل يلوحون لك فعلا؟ أو لأفراد من أسرتهم مثلا، هؤلاء الذين قد لا يرونهم أبداً؟!
ما هذا الولع بأن تكون هناك، لا في الواقع، بل على الشاشة، ليراك أشخاص لا تعرفهم ولا تعرف أنهم رأوك؟ وما قيمة ذلك كله؟ ما ثمن هذه التلويحة العجيبة؟!
في قصة لتشيكوف يتصادف مرور شاب مع وقوع حادثة ما. يجد الشاب اسمه في صحيفة كشاهد على الحادثة. يدور الشاب بالصحيفة هنا وهنا: انظروا.. هذا أنا.
بحدس مبكر للغاية يقدم لنا تشيكوف صورة عن نوع آخر من الوجود: لا يهم أن تكون موجودا في الواقع، بل هناك على صفحة جريدة، أو ملوحا بيدك أمام الكاميرا، أو شابا على قدميك لتُرى بين الحشود، بغض النظر عن السؤال: تُرى من جهة من؟
الميديا تتحول إلى واقع: بل إلى الواقع الأشد جوهرية من الواقع الفعلي («بودريار» قال ذلك بعد ما يقارب القرن)، ولا تعود للأخير أي أهمية إلا بقدر ما يؤهلنا للظهور «هناك»، بقدر ما يجعلنا مرئيين من جهة مجهولة.
هل هو شكل من أشكال الولع بالخلود مثلا؟ لا. فلا أكثر عابرية من الميديا. إنها ذاكرة لا تتحمل السعة الكبيرة، فتقوم بتفريغ ما فيها باستمرار وإلقائه إلى «سلة المهملات» تمهيداً لمحوها نهائيا.
يحدث من مواطن عادي أن يصطدم بجمهرة في طريقه إلى البيت، ويلمح الكاميرا، فيبحث عن ثغرة ليكون ضمن المشهد. ولكن هناك من يكرسون حياتهم كلها من أجل هذه اللحظات؛ انهم كتاب أحيانا، سياسيون أحيانا أخرى، فنانون ربما، يرهنون قيمة حياتهم كلها بلحظة الظهور تلك. يتقاتلون ليكونوا ضمن المشهد. لا يكتفون بالتلويح أو بأن يشبوا على أطراف أقدامهم، بل يصرخون، يلوحون بقبضات، يتخذون أوضاعا لافتة للنظر، يبكون، يدعون أنهم يمثلون جمهورا آخر لم يتح له الوقوف أمام الكاميرا، وهم في الواقع من دفعوا بهذا الجمهور إلى الوراء، لأن بقاءه في الظل يسمح لهم باستمرار التمثيل، بادعاء التمثيل.
الصراع بين أبناء هذه النخب ليس على ما يمثلونه فعلا، ليس على أفكار ولا سياسات، ليس على واقع ملموس يراد تغييره، بل مساحة أرحب للتلويح، على البقاء فترة أطول أمام الكاميرا. الكاتب ليس كاتبا إلا حين يكون موجودا «هناك»، والسياسي لا قيمة له إلا بعدد المرات التي طرق فيها على طاولة حوار على فضائية ما.
انهم ممثلو أدوار لا ينتظر منهم الجمهور أكثر من ذلك. لقد صاروا هم «الواقع»، بينما غاب الواقع الحقيقي أو كاد. والجمهور لا ينتظر من هؤلاء أي شيء، بل ينظر ويحلم باليوم الذي يصبح فيه معهم «هناك».
حتى وهو يشتري كتبهم أو يقرأ مقالاتهم، يفعل ذلك بالقدر نفسه من الانسحاق أمام النخبة المرئية، يقرأ لعله يكون مرئيا معهم يوما ما.
ربما يفسر هذا حركة الكتابة المتنامية (المسماة «شبابية») بشكل لافت لمطبوعات قد لا تكون لها قيمة على الاطلاق، ويعرف أصحابها ذلك، ولو بالحدس. لم يعد لدينا قرّاء أو مشاهدون. بل لدينا صف طويل ينتظر الظهور بفارغ الصبر، ولو من خلال الشهادة على حادثة أو جريمة، مثل بطل تشيكوف.
مهاب نصر