الوحي :
هو إعلام الله أنبياءه بما يريد أن يبلغه إليهم من شرع أو كتاب، بواسطة أو غير واسطة، وهو أكبر الدعائم التى ترتكز عليها حقيقة النبوة، قال الزهري: " الوحي ما يوحي الله إلى نبي من الأنبياء، فيثبته في قلبه، فيتكلم به ويكتبه، وهو كلام الله "، وقال الحافظ ابن حجر: " هو الإعلام بالشرع "، وعرفه البعض بأنه كلام الله المنزل على النبى المُوحَى إليه .
وقد أثار أعداء الاسلام ـ قديما وحديثا ـ شبهات كثيرة حول الوحي إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وتستهدف هذه الشبهات في الغالب التأكيد على تطلع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لمقام النبوة، وأن هذا الوحي ليس مرتبطاً بالله ـ عز وجل ـ، وإنما هو نابع من ذات محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ، فزعموا تارة: أن الوحي الذى نزل على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أمر ذاتى من داخل نفسه الصافية، وعقله العبقرى، وتارة أخرى: يزعمون أنه عبارة عن أمراض عقلية ونفسية، وتارة ثالثة: أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ اقتبسه من اليهودية والنصرانية، أو أنه وحى شيطانى .. وقد أرادوا بذلك الطعن في الوحي، لأنهم يعلمون أن القدْح فى الوحي هو قدح في نبوته ـ صلى الله عليه وسلم ـ، والنيل من الوحي والتشكيك فيه يؤدى إلى انهيار صرح الإسلام، إذ الوحي هو الأساس الذى بُنِيَ عليه الإسلام، قال الله تعالى: { يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الكَافِرُونَ }(التوبة الآية: 32 ) .
وللرد على ذلك: ينبغي العلم بأن الوحي ليس أمراً كَسْبيا يناله الإنسان بسعيه، فالنبوة اصطفاء لا اكتساب، ولا يمكن للعبد بالاجتهاد في الطاعة والترقي في مقامات العبودية أن ينال مرتبة النبوة، فهي ليست باباً مفتوحاً يصل إليه من سمت نفسه وروحه، وعظم عقله وفكره .. فالنبوة لا تكون إلا لمن اختاره الله واصطفاه، وليس معنى ذلك أن الأنبياء لم يكن فيهم مزية عن غيرهم، أو أنهم لم يكونوا أهلاً للنبوة، وإنما معناه أنهم لم ينالوا هذه المرتبة باجتهادهم، وإنما نالوها بفضل الله عليهم، واجتبائه لهم، والأنبياء كما هو معلوم أفضل الخلق، ونبينا ـ صلى الله عليه وسلم ـ هو الرسول المُصطفى والنبي المُجْتَبىَ الذي قال عن نفسه: ( إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشا من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم ) رواه البخاري، وقال: (إن مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بيتا فأحسنه وأجمله، إلا موضع لبنة من زاوية، فجعل الناس يطوفون ويعجبون له ويقولون: هلاَّ وُضِعت هذه اللبنة؟، قال: فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين ) رواه البخاري .
فالنبوة والرسالة اصطفاء إلهي يختص الله به من يشاء من عباده، قال الله تعالى: { اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ }(الحج من الآية: 75) .
قال السعدي في تفسيره : " أي: يختار ويجتبي من الملائكة رسلًا، ومن الناس رسلًا، يكونون أزكى ذلك النوع، وأجمعه لصفات المجد، وأحقه بالاصطفاء، فالرسل لا يكونون إلا صفوة الخلق على الإطلاق، والذي اختارهم واصطفاهم ليس جاهلًا بحقائق الأشياء، أو يعلم شيئًا دون شيء، وإنما المُصْطَفِي لهم، السميع البصير، الذي قد أحاط علمه وسمعه وبصره بجميع الأشياء، فاختياره إياهم عن علم منه أنهم أهل لذلك، وأن الوحي يصلح فيهم، كما قال تعالى: { اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ }(الأنعام من الآية: 124 ) " .
ولم يكن نبينا ـ صلى الله عليه وسلم ـ يستشرف النبوة، ولا يتطَّلَّع لها، ولا يحلم بها، ولو كان يتطلع لها، لما فزع من نزول الوحي عليه، ولما رجع إلى خديجة ـ رضي الله عنها ـ خائفاً يستفسرها عن سر تلك الظاهرة التي رآها في غار حراء، ولم يتأكد من أنه رسول إلا بعد رؤية جبريل يقول له: " يا محمد أنت رسول الله، وأنا جبريل "، وبعد أن أكد له ورقة بن نوفل أن ما رآه في الغار هو الوحي الذي كان ينزل على موسى ـ عليه السلام ـ .
وقد أجمع كل من رأى النبيَّ – صلى الله عليه وسلم ـ وقت نزول الوحي عليه بعد ذلك، أنه كان يعاني في أثناء نزوله شدة وصعوبة، يبقى على ذلك ما شاء الله، فلا يهدأ ولا يذهب عنه الروع إلا بعد انتهاء الوحي، قال الله تعالى: { إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً }(المزمل الآية: 5)، وعن عائشة ـ رضي الله عنها ـ: قالت: ( ولقد رأيتُه – تعني رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم – ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه، وإن جبينه ليتفصد ( يسيل ) عرقا ) رواه البخاري .
ومن هنا يظهر كذب وافتراء المشركين قديماً وبعض المستشرقين حديثاً في طعنهم وتشكيكهم في حقيقة الوحي إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بقولهم: حديث نفس وإشراق روحي، أو: إلهام ومنام، وقد ردَّ الله على هذه الفرية وأكد على أن ما كان ينزل على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إنما هو وحي من الله، كما أوحى الله إلى غيره من الأنبياء والرسل، والذي لم يكن يعلم عنه شيئا، ولم يكن متشوقا ولا متوقعا له، فقال تعالى: { إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآَتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا }(النساء الآية: 163)، وقال تعالى: { وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ }(الشعراء من الآية 192: 195 ) .
قال ابن كثير: " { لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ } أي: أنزله الله عليك وأوحاه إليك، { نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ } : وهو جبريل ـ عليه السلام ـ، قاله غير واحد من السلف: ابن عباس، ومحمد بن كعب، وقتادة، والسدي، والضحاك، والزهري، وابن جريج، وهذا ما لا نزاع فيه " .
وقال تعالى: { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الْأِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ }(الشورى:52) .
قال السعدي في تفسيره: " { مَا كُنْتَ تَدْرِي } أي: قبل نزوله عليك { مَا الْكِتَابُ وَلا الإيمَانُ } أي: ليس عندك علم بأخبار الكتب السابقة، ولا إيمان وعمل بالشرائع الإلهية، بل كنت أميا لا تخط ولا تقرأ، فجاءك هذا الكتاب الذي { جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا } يستضيئون به في ظلمات الكفر والبدع، والأهواء المردية، ويعرفون به الحقائق، ويهتدون به إلى الصراط المستقيم " .
وكان ورقة بن نوفل يقول فيما ذكرت له خديجة ـ رضي الله عنها ـ: من أمر جبريل مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ:
يَا لِلرِّجَالِ وَصَرْفِ الدَّهْرِ وَالْقَدَرِ وَمَا لِشَيْءٍ قَضَاهُ اللهُ مِنْ غِيَرِ
حَتَّى خَدِيجَةُ تَدْعُونِي لِأُخبِرَهَا وَمَا لَهَا بَخَفِيِّ الْغَيْبِ مِنْ خَبَرِ
جَاءَتْ لِتَسْأَلَنِي عَنْهُ لِأُخبِرَهَا أَمْراً أُرَاهُ سَيَأْتِي النَّاسَ مِنْ أُخَرَ
فَخَبَّرَتْنِي بِأَمْرٍ قَدْ سَمِعْتُ بِهِ فِيمَا مَضَى مِنْ قَدِيمِ الدَّهْرِ وَالْعُصُرِ
بِأَنَّ أَحْمَدَ يَأْتِيهِ فَيُخْبِرُهُ جِبْرِيلُ أَنَّكَ مَبْعُوثٌ إِلَى الْبَشَرِ
فَقُلْتُ علَّ الَّذِي تَرْجِينَ يُنْجِزُهُ لَكِ الْإِلَهُ فَرَجِّي الْخَيْرَ وانْتَظِرِي
وَأَرْسِلِيهِ إِلَيْنَا كَيْ نُسَائِلَهُ عَنْ أَمْرِهِ مَا يَرَى فِي النَّوْمِ وَالسَّهَرِ
فَقَالَ حِينَ أَتَانَا مَنْطِقًا عَجَبًا يَقِفُّ مِنْهُ أَعَالِي الْجِلْدِ وَالشَّعَرُ
إِنِّي رَأَيْتُ أَمِينَ اللهِ وَاجَهَنِي فِي صُورَةٍ أُكْمِلَتْ مِنْ أَهْيَبِ الصُّوَرِ
ثُمَّ اسْتَمَرَّ فَكَادَ الْخَوْفُ يَذْعُرُنِي مِمَّا يُسَلِّمُ مِنْ حَوْلِي مِنَ الشَّجَرِ
فَقُلْتُ ظَنِّي وَمَا أَدْرِي أَيَصْدُقُنِي أَنْ سَوْفَ تُبْعَثَ تَتَلُو مُنْزَلَ السُّوَرِ
هو إعلام الله أنبياءه بما يريد أن يبلغه إليهم من شرع أو كتاب، بواسطة أو غير واسطة، وهو أكبر الدعائم التى ترتكز عليها حقيقة النبوة، قال الزهري: " الوحي ما يوحي الله إلى نبي من الأنبياء، فيثبته في قلبه، فيتكلم به ويكتبه، وهو كلام الله "، وقال الحافظ ابن حجر: " هو الإعلام بالشرع "، وعرفه البعض بأنه كلام الله المنزل على النبى المُوحَى إليه .
وقد أثار أعداء الاسلام ـ قديما وحديثا ـ شبهات كثيرة حول الوحي إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وتستهدف هذه الشبهات في الغالب التأكيد على تطلع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لمقام النبوة، وأن هذا الوحي ليس مرتبطاً بالله ـ عز وجل ـ، وإنما هو نابع من ذات محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ، فزعموا تارة: أن الوحي الذى نزل على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أمر ذاتى من داخل نفسه الصافية، وعقله العبقرى، وتارة أخرى: يزعمون أنه عبارة عن أمراض عقلية ونفسية، وتارة ثالثة: أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ اقتبسه من اليهودية والنصرانية، أو أنه وحى شيطانى .. وقد أرادوا بذلك الطعن في الوحي، لأنهم يعلمون أن القدْح فى الوحي هو قدح في نبوته ـ صلى الله عليه وسلم ـ، والنيل من الوحي والتشكيك فيه يؤدى إلى انهيار صرح الإسلام، إذ الوحي هو الأساس الذى بُنِيَ عليه الإسلام، قال الله تعالى: { يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الكَافِرُونَ }(التوبة الآية: 32 ) .
وللرد على ذلك: ينبغي العلم بأن الوحي ليس أمراً كَسْبيا يناله الإنسان بسعيه، فالنبوة اصطفاء لا اكتساب، ولا يمكن للعبد بالاجتهاد في الطاعة والترقي في مقامات العبودية أن ينال مرتبة النبوة، فهي ليست باباً مفتوحاً يصل إليه من سمت نفسه وروحه، وعظم عقله وفكره .. فالنبوة لا تكون إلا لمن اختاره الله واصطفاه، وليس معنى ذلك أن الأنبياء لم يكن فيهم مزية عن غيرهم، أو أنهم لم يكونوا أهلاً للنبوة، وإنما معناه أنهم لم ينالوا هذه المرتبة باجتهادهم، وإنما نالوها بفضل الله عليهم، واجتبائه لهم، والأنبياء كما هو معلوم أفضل الخلق، ونبينا ـ صلى الله عليه وسلم ـ هو الرسول المُصطفى والنبي المُجْتَبىَ الذي قال عن نفسه: ( إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشا من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم ) رواه البخاري، وقال: (إن مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بيتا فأحسنه وأجمله، إلا موضع لبنة من زاوية، فجعل الناس يطوفون ويعجبون له ويقولون: هلاَّ وُضِعت هذه اللبنة؟، قال: فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين ) رواه البخاري .
فالنبوة والرسالة اصطفاء إلهي يختص الله به من يشاء من عباده، قال الله تعالى: { اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ }(الحج من الآية: 75) .
قال السعدي في تفسيره : " أي: يختار ويجتبي من الملائكة رسلًا، ومن الناس رسلًا، يكونون أزكى ذلك النوع، وأجمعه لصفات المجد، وأحقه بالاصطفاء، فالرسل لا يكونون إلا صفوة الخلق على الإطلاق، والذي اختارهم واصطفاهم ليس جاهلًا بحقائق الأشياء، أو يعلم شيئًا دون شيء، وإنما المُصْطَفِي لهم، السميع البصير، الذي قد أحاط علمه وسمعه وبصره بجميع الأشياء، فاختياره إياهم عن علم منه أنهم أهل لذلك، وأن الوحي يصلح فيهم، كما قال تعالى: { اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ }(الأنعام من الآية: 124 ) " .
ولم يكن نبينا ـ صلى الله عليه وسلم ـ يستشرف النبوة، ولا يتطَّلَّع لها، ولا يحلم بها، ولو كان يتطلع لها، لما فزع من نزول الوحي عليه، ولما رجع إلى خديجة ـ رضي الله عنها ـ خائفاً يستفسرها عن سر تلك الظاهرة التي رآها في غار حراء، ولم يتأكد من أنه رسول إلا بعد رؤية جبريل يقول له: " يا محمد أنت رسول الله، وأنا جبريل "، وبعد أن أكد له ورقة بن نوفل أن ما رآه في الغار هو الوحي الذي كان ينزل على موسى ـ عليه السلام ـ .
وقد أجمع كل من رأى النبيَّ – صلى الله عليه وسلم ـ وقت نزول الوحي عليه بعد ذلك، أنه كان يعاني في أثناء نزوله شدة وصعوبة، يبقى على ذلك ما شاء الله، فلا يهدأ ولا يذهب عنه الروع إلا بعد انتهاء الوحي، قال الله تعالى: { إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً }(المزمل الآية: 5)، وعن عائشة ـ رضي الله عنها ـ: قالت: ( ولقد رأيتُه – تعني رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم – ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه، وإن جبينه ليتفصد ( يسيل ) عرقا ) رواه البخاري .
ومن هنا يظهر كذب وافتراء المشركين قديماً وبعض المستشرقين حديثاً في طعنهم وتشكيكهم في حقيقة الوحي إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بقولهم: حديث نفس وإشراق روحي، أو: إلهام ومنام، وقد ردَّ الله على هذه الفرية وأكد على أن ما كان ينزل على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إنما هو وحي من الله، كما أوحى الله إلى غيره من الأنبياء والرسل، والذي لم يكن يعلم عنه شيئا، ولم يكن متشوقا ولا متوقعا له، فقال تعالى: { إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآَتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا }(النساء الآية: 163)، وقال تعالى: { وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ }(الشعراء من الآية 192: 195 ) .
قال ابن كثير: " { لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ } أي: أنزله الله عليك وأوحاه إليك، { نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ } : وهو جبريل ـ عليه السلام ـ، قاله غير واحد من السلف: ابن عباس، ومحمد بن كعب، وقتادة، والسدي، والضحاك، والزهري، وابن جريج، وهذا ما لا نزاع فيه " .
وقال تعالى: { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الْأِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ }(الشورى:52) .
قال السعدي في تفسيره: " { مَا كُنْتَ تَدْرِي } أي: قبل نزوله عليك { مَا الْكِتَابُ وَلا الإيمَانُ } أي: ليس عندك علم بأخبار الكتب السابقة، ولا إيمان وعمل بالشرائع الإلهية، بل كنت أميا لا تخط ولا تقرأ، فجاءك هذا الكتاب الذي { جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا } يستضيئون به في ظلمات الكفر والبدع، والأهواء المردية، ويعرفون به الحقائق، ويهتدون به إلى الصراط المستقيم " .
وكان ورقة بن نوفل يقول فيما ذكرت له خديجة ـ رضي الله عنها ـ: من أمر جبريل مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ:
يَا لِلرِّجَالِ وَصَرْفِ الدَّهْرِ وَالْقَدَرِ وَمَا لِشَيْءٍ قَضَاهُ اللهُ مِنْ غِيَرِ
حَتَّى خَدِيجَةُ تَدْعُونِي لِأُخبِرَهَا وَمَا لَهَا بَخَفِيِّ الْغَيْبِ مِنْ خَبَرِ
جَاءَتْ لِتَسْأَلَنِي عَنْهُ لِأُخبِرَهَا أَمْراً أُرَاهُ سَيَأْتِي النَّاسَ مِنْ أُخَرَ
فَخَبَّرَتْنِي بِأَمْرٍ قَدْ سَمِعْتُ بِهِ فِيمَا مَضَى مِنْ قَدِيمِ الدَّهْرِ وَالْعُصُرِ
بِأَنَّ أَحْمَدَ يَأْتِيهِ فَيُخْبِرُهُ جِبْرِيلُ أَنَّكَ مَبْعُوثٌ إِلَى الْبَشَرِ
فَقُلْتُ علَّ الَّذِي تَرْجِينَ يُنْجِزُهُ لَكِ الْإِلَهُ فَرَجِّي الْخَيْرَ وانْتَظِرِي
وَأَرْسِلِيهِ إِلَيْنَا كَيْ نُسَائِلَهُ عَنْ أَمْرِهِ مَا يَرَى فِي النَّوْمِ وَالسَّهَرِ
فَقَالَ حِينَ أَتَانَا مَنْطِقًا عَجَبًا يَقِفُّ مِنْهُ أَعَالِي الْجِلْدِ وَالشَّعَرُ
إِنِّي رَأَيْتُ أَمِينَ اللهِ وَاجَهَنِي فِي صُورَةٍ أُكْمِلَتْ مِنْ أَهْيَبِ الصُّوَرِ
ثُمَّ اسْتَمَرَّ فَكَادَ الْخَوْفُ يَذْعُرُنِي مِمَّا يُسَلِّمُ مِنْ حَوْلِي مِنَ الشَّجَرِ
فَقُلْتُ ظَنِّي وَمَا أَدْرِي أَيَصْدُقُنِي أَنْ سَوْفَ تُبْعَثَ تَتَلُو مُنْزَلَ السُّوَرِ