تخطى إلى المحتوى

تكلفة إنسانية كبيرة لقطع بنوك عالمية علاقتها بالبلدان النامية

تكلفة إنسانية كبيرة لقطع بنوك عالمية علاقتها بالبلدان النامية
خليجية مليار دولار تقريباً يتم ارسالها أسبوعيا من الولايات المتحدة الأميركية من قبل أناس يساهمون في اعالة أسرهم في بلدان أخرى، معظمها يقع في بلدان أميركا اللاتينية وأفريقيا. وفي كل أسبوع، تقوم عربات مدرعة بجمع ملايين الدولارات من هذه التحويلات النقدية وتسير بها مئات الأميال لايداعها في أقرب فروع الاحتياطي الفدرالي الأميركي. عندما تصل العربات المدرعة الى فروع الاحتياطي الفدرالي، يتم تحويل تلك الأموال الى بنك صغير على الساحل الغربي يسمى «ميرشانت بنك أوف كاليفورنيا»، وهو آخر بنك أميركي لايزال يتعامل مع الكثير من الشركات الصغيرة التي تتعامل مع الحوالات المالية.

يقول عدن حسن، المدير التنفيذي في شركة كاه اكسبريس ومقرها مينيسوتا، إن شركات الحوالات المالية كشركته، مجبرة على القيام بهذه العملية التى تستغرق الكثير من الوقت والمكلفة ماديا، لأنه تم استبعادهم كليا تقريبا من النظام المصرفي. ويضيف «منذ 2024، بدأت البنوك الأميركية الرئيسية في تخفيض عدد شركات خدمات المال، لذلك أصبحت تعتمد بصورة أكبر على البنوك الأصغر التي تقتصر خدماتها وأنشطتها على الولايات، الى أن بدأت في اغلاق الحسابات ولم يتبق سوى ميرشانت بنك أوف كاليفورنيا».

ومع شن الجهات التنظيمية حملات على غسل الأموال وتمويل الارهاب، قطعت البنوك علاقاتها مع الكثير من الزبائن في البلدان النامية في محاولة للحد من خطر التعرض لغرامات باهظة. وتقول البنوك وغيرها من المنتقدين ان هذا الأمر ينطوي على تكلفة انسانية غير مقصودة من خلال اضافة المؤسسات الخيرية والمنظمات غير الحكومية الى مجموعة المؤسسات التي أوقفت التعامل معها.

وقد تصدر هذا الموضوع أجندة الأعمال بعد أن سلط عدد من القضايا البارزة الضوء على تأثير تزايد عزوف البنوك عن المخاطر، لاسيما في موضوع تدفق الحوالات المالية الى الدول الفقيرة مثل الصومال.

ويأتي هذا النقاش بعد أن شهدت البنوك عاما مؤلما آخر تميز بفرض غرامات مالية كبيرة، آخرها كان فرض الجهات التنظيمية غرامة بقيمة 4.3 مليارات دولار على ستة بنوك لدورها في التلاعب بأسعار صرف العملات الأجنبية. وقد أضعفت الفضائح حجة البنوك ومفادها أن القوانين والقواعد التي وضعت في أعقاب الأزمة تضر بقطاعات وأجزاء مهمة في الاقتصاد، كقروض الرهن العقاري في الولايات المتحدة الأميركية.

وتتهم البنوك والحكومات في بعض الأحيان الجهات التنظيمية، خصوصا في الولايات المتحدة، بأنها متحمسة للغاية في ملاحقتها. ففي وقت سابق من هذا العام، دفع مصرف «بي ان بي باريبا» غرامة قوامها 8.9 مليارات دولار لانتهاكه العقوبات المفروضة على السودان وايران وكوبا على مدى سنوات عدة، الأمر الذي دفع الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند الى تقديم شكوى الى الرئيس الأميركي باراك أوباما بشأن المعاملة التي تلقاها أكبر بنوك فرنسا. كما دفع كل من مصرف «اتش اس بي سي» و«ستاندارد تشارترد» غرامات مالية كبيرة في اطار تسوية مع السلطات الأميركية تتعلق بمزاعم غسل أموال.

وكان دوغلاس فلينت، رئيس مجلس ادارة «اتش اس بي سي»، حذر في وقت سابق هذا العام من وجود «خطر ملحوظ متزايد وغير متناسب للعزوف عن المخاطر يزحف الى صناعة القرار» في أكبر بنوك أوروبا من حيث الأصول. وكان مصرف «اتش اس بي سي» بدأ قبل عامين بالانسحاب من عدد من البلدان والأنشطة التي اعتبر أنها محفوفة بمخاطر كبيرة بعد أن دفع غرامة بقيمة 1.9 مليار دولار الى السلطات الأميركية واعترافه بقيامه بعمليات تمرير وتنظيف لعائدات تهريب المخدرات عبر المكسيك وتحويله أموالا من بلدان تخضع للعقوبات مثل ايران.

تكلفة المطالب التنظيمية التي فرضت على البنوك الكبيرة ظهرت للعيان بواسطة جيمي ديمون، الرئيس التنفيذي لمصرف «جي بي مورغان تشيس»، الذي قال في مذكرة موجهة الى المساهمين هذا العام إن البنك أنفق 2 مليار دولار ووظف 13 ألف موظف لدعم تعامله مع القضايا التنظيمية والامتثال بعد أن دفع أكثر من 20 مليار دولار غرامات قانونية العام الماضي.

وقطع «جي بي مورغان» علاقاته مع أعداد كبيرة من العملاء من ذوي المخاطر العالية، بحسب البنك، بما في ذلك عشرات البنوك في البلدان النامية. وقد تسبب ذلك بحدوث بعض اللحظات المحرجة: اذ تم الغاء وزير خارجية كولومبيا السابق خوسيه أنطونيو أوكامبو، كزبون، بعد أن أغلق البنك حسابات دبلوماسيين غير أميركيين سابقين وحاليين، وحتى ممثلات في أفلام اباحية مثل تيغان بريسلي وفيرونيكا أفلوف، اللاتي دشن حملة على تويتر وأطلقن هاشتاغ «قاطعوا بنك تشيس» للاحتجاج على المعاملة التي يتلقينها.

ونظرا لارتفاع تكاليف الامتثال للقوانين الجديدة ومخاطر التعرض لغرامات مالية باهظة اذا ما حدث أي خطأ، يقول المصرفيون إن ميزان الأرباح والمخاطر يميل باتجاه ضد تقديم خدمات الى الزبائن الذين لايحققون أرباحا عالية.

وتمتنع البنوك عن التعامل مع مدفوعات منظمات ومؤسسات مثل شركات الحوالات المالية الأفريقية أو الجمعيات الخيرية الاسلامية بسبب مخاطر امكانية وصول هذه الأموال الى الجهة الخطأ كالجماعات الارهابية مثل حركة الشباب في الصومال أو الدولة الاسلامية في بلاد الشام والعراق (داعش).

أحد الرؤساء التنفيذيين لمصرف أوروبي يقول «من وجهة نظري، هناك بدلة اعدام برتقالية في الولايات المتحدة يقول الجهاز التنظيمي انها في انتظاري».

وقد أثارت ظاهرة «العزوف عن المخاطرة» والحد منها مخاوف عند أعلى المستويات في صناعة السياسات التنظيمية. وكان مارك كارني، محافظ بنك انكلترا المركزي، قال في بازل اخيرا إنه من المقرر أن تتم مناقشة الموضوع على مستوى مجموعة العشرين مع التحذير الذي أطلقه من احتمال «أن لا يتم التعامل مصرفيا مع أجزاء من العالم أو التعامل معها بنشاط أقل». ودعا الى تنسيق أفضل بين الأجهزة التنظيمية.

وقال السير شيرارد كوبر كولز، كبير المستشارين في مصرف «اتش اس بي سي» في مؤتمر عقد اخيرا إن البنوك مارست التذلل الوقائي أمام الأجهزة التنظيمية، مما قد يؤدي الى ترك أجزاء من العالم خارج النظام المصرفي العالمي. وأضاف «في الوقت الذي قد تكون هناك مصلحة عامة في عمليات الانسحاب تلك، الا أنه قد تكون هناك تكلفة لذلك أيضا».

وأظهر استطلاع شمل 17 من بنوك المقاصة أنه تم قطع العلاقات مع آلاف من البنوك المحلية التي تعمل ****ل وممثل للبنوك الأجنبية منذ 2024. وبلغ متوسط التراجع في العلاقات بين المصارف الأجنبية ووكلائها %7.5، مع قيام مصرفيين بقطع خمس علاقاتهما، بحسب النتائج التي قدمت في اجتماعات مجموعة العمل المالي في أكتوبر.

وتشير دراسة أعدتها غرفة التجارة الدولية الى وجود تأثير كبير لذلك على التمويل التجاري. فاستنادا الى ردود 298 مصرفا في 127 بلدا، وجدت الدراسة أن متطلبات مكافحة غسل الأموال «واعرف عميلك» أدت الى انخفاض معاملات البنوك التي شملتها الدراسة بنسبة %68 في عام 2024. وكانت أفريقيا الأكثر تضررا، بينما كانت الشركات الصغيرة والمتوسطة الحجم القطاع الأكثر تأثرا.

بعض أبرز المشاكل تتركز في مجال الحوالات المالية، حيث تعاني بلدانا مثل الصومال من عدم رغبة البنوك في تعريض نفسها لمخاطر تدفقات التمويل غير المشروعة. وتعتبر الحوالات المالية مهمة للغاية بالنسبة للدول الفقيرة، حيث تشكل ثلث الناتج المحلي الاجمالي فيها، وفي طريقها لأن تصل الى 436 مليار دولار، وفقا للبنك الدولي.

وكانت شبكة مكافحة الجرائم المالية في الولايات المتحدة حذرت من أن البنوك تقوم «بعمليات الغاء دون تمييز» لحسابات المؤسسات التي تعمل في مجال الحوالات المالية. ويقدر اتحاد مرسلي الحوالات المالية فى بريطانيا أن حوالي %85 من المؤسسات الدفع المرخصة التي تتخذ من بريطانيا مقرا لها والتي تركز في أعمالها على التحويلات المالية عبر الحدود، اما أنها غير قادرة على امتلاك حسابات مصرفية وإما أنها تتمتع بامكانية محدودة في ذلك.

قضية دهشبيل تعتبر من القضايا التي أثارت الاهتمام في بريطانيا. وهي الشركة الرائدة في مجال تحويل الأموال الى أفريقيا، التي شنت تحديا قانونيا ناجحا ضد قرار بنك باركليز باغلاق حسابها المصرفي العام الماضي. وكان باركليز آخر بنك من البنوك الكبيرة في بريطانيا، الذي يتعامل مع الكثير من شركات تحويل الأموال وواجه حملة للتراجع عن قراره بقيادة الرياضي الصومالي المولد البريطاني الجنسية محمد فرح. ووافقت دهشبيل في نهاية الأمر على اجراء تسوية خارج أروقة المحاكم مع البنك والقيام بترتيبات مصرفية بديلة.

وتتعرض الجمعيات الخيرية هي الأخرى للضرر نتيجة تلك الاجراءات. اذ يقول عبدالرحمن شريف من مدونة الجمعيات الخيرية الاسلامية في بريطانيا إن أعضاء المدونة من الجمعيات والمؤسسات الخيرية في حال تأهب دائم بعد أن تم اغلاق حسابات العديد منها من قبل مصرف «اتش اس بي سي» وغيره من المصارف. ويضيف «الناس لايريدون التحدث علنا عن الموضوع، لأنه سيتم اغلاق حسابات الوكلاء الذين تستخدمهم المصارف وسيوسمون بأنهم جهات محفوفة بالمخاطر».

ويحذر شريف من أن استبعاد الجمعيات الخيرية الاسلامية من النظام المصرفي، لأن ذلك من شأنه أن يدفع بحركة تدفق الأموال الى السرية، ضاربا المثل بالأشخاص الذين ينقلون المال الى غزة وسوريا. ويتابع «لقد انتقلنا من مرحلة تقديم المقترحات الى الحاجة الى وجود حلول لهذا الأمر، والا فان الوضع سيصبح دراماتيكيا ومثيرا للسخرية».

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.