أين الواقع؟ أهو ما تراه العين أم ما تدركه البصيرة؟ وهل للبصيرة منفذ مباشر على الأشياء من حولنا الا عبر السطوح والملامس، عبر اللون والظل، عبر توالي الظهور والخفاء، أي عبر العين مجددا؟
هذا أحد الأسئلة التي تبادرك حين تشاهد لوحات الفنان المغربي أحمد جاريد والفنان السوداني راشد دياب التي عرض بعضها أخيرا في غاليري بوشهري.
لوحات أحمد جاريد تقف بنا عند عتبة بين التجريد العالم الحقيقي، ذلك العالم يطل برأسه هنا كأثر لشيء كان، شيء لن يعود لأن ما بقي منه هو فكرته، ذاكرته المشوشة المهتزة. في لوحات جاريد المعروضة يتكرر رسم الغصن الأخضر المورق ولكنه يختزل تدريجيا وينقلب إلى لون حائل مختلط ذرى تقف على أبوابنا لم يبق منها الا طرقة خفيفة لشبح.
ماذا أرسم؟
في حوار سابق يجيب جاريد عن سؤال لمحاوره: أليس الفراغ هو أول الكائن وآخر؟ بقوله «الذي يؤرقني، في الواقع ليس هذا السؤال، بل سؤال أشد ضراوة وأعمق معاناة، وهو: ماذا أرسم وما جدوى ما أرسم؟ معادلة الإبداع الحقيقية تسكن هذا السؤال لا في غيره. إذا نحن أردنا ألا نسقط في الابتدال والتكرار وأن نخرج من حالة التعبير إلى حالة الإبداع، ينبغي ألا تفارق أعيننا هذا السؤال الجريح أو الجارح. لهذا أراني لن أمل ولن أبرح قولة ابن عربي «امح ما كتبتَ وانس ما علمتَ وازهد في ما جمعتَ».
مثل القصيدة الجاهلية التي تقف على أطلال الأزمنة الدارسة، أمام قوة المحو تقف أعمال جاريد على مستوى التشكيل لا الكلمة، لا لتبحث عن جوهر، بل ربما لتؤكد عدم وجوده، وعبث البحث عنه.
الزمان والمكان
اذا انتقلنا إلى لوحات راشد دياب فنحن نواجه أيضا الزمن والمكان في علاقتهما بالبشر، يتخذ الرسم مساحة تبدو وكأنها عرضية أو تائهة وسط محيط لوني شبه متجانس، لكن هذا يجعلها أقوى حضورا وبهجة، الذاكرة كانت تحتفي بما يبقى، بالعابرين، بألوان البيئة المحلية، البشر على خط واحد مع الرموز والأساطير.
المكان والزمان أيضا ممتدان بلا نهاية لكن الحفاوة بالحياة كاستثناء، في التركيز على رسم المرأة، في مرونة الحركة الأنثوية، وفي اللون الوهاج يجعل من هذه الكتلة الصغيرة معادلة للكتلة الأكبر ومكافئا لها وقادرا على اختراقها مثل حلم يبقى في الذاكرة حتى بعد اليقظة.
م. ن