ما أحوجنا إلى إشاعة آداب الرحمة والتراحم في المجتمع ، فالقلوب العامرة بالرحمة والشفقة تثمر سكينة وطمأنينة ، وتبني مجتمعا متعاطفا متكافلا ، تسوده المحبة والمودة والأمان ، كما أن القلوب القاسية الغليظة تمزق المجتمع ، وتزلزل أركانه ، وتنشر الظلم والشقاء والاعتداء على حقوق الناس ، بل إن أكثر مشكلات المجتمع بمختلف أنواعها ناجمة عن ضعف الرحمة في القلوب وبين الناس ، ومن ثم قال النبي " صلى الله عليه وسلم " : "لا تنزع الرحمة إلا من شقي" ، "أبو داود".
، وقال: "الراحمون يرحمهم الرحمن ، ارحموا أهل الأرض يرحمكم من في السماء" ، "أبو داود" ، وقال " صلى الله عليه وسلم " : "لن تؤمنوا حتى تراحموا ، قالوا : يا رسول الله كلنا رحيم ، قال : إنه ليس برحمة أحدكم صاحبه ، ولكنها رحمة العامة" ، "الطبراني" .
ومن نعم الله على البشرية أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ما بُعِث إلا لتحقيق ونشر الرحمة بين الناس كما قال الله تعالى : {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} ، الأنبياء : 107.
وقال تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} التوبة : 128 ، ويؤكد الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ ذلك بقوله : "أنا نبي الرحمة". "مسلم" ويقول : "يا أيها الناس! إنما أنا رحمة مهداة" .
ويعبر النبي " صلى الله عليه وسلم" عن رحمته التي جاء بها للناس أجمعين بقوله : "إنما مثلي ومثل الناس كمثل رجل استوقد نارا ، فلما أضاءت ما حوله جعل الفراش وهذه الدواب التي تقع في النار يقعن فيها ، فجعل ينزعهن ويغلبنه فيقتحمن فيها ، فأنا آخذ بحجزكم عن النار وأنتم تقحمون فيها" ، "البخاري" .
ويقول ابن تيمية : " الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ بعثه الله تعالى هدى ورحمة للعالمين ، فإنه كما أرسله بالعلم والهدى والبراهين العقلية والسمعية فإنه أرسله بالإحسان إلى الناس والرحمة لهم بلا عوض وبالصبر على أذاهم واحتماله ، فبعثه بالعلم والكرم والحلم ، عليم ، هاد ، كريم ، محسن ، حليم ، صفوح " .
وإذا كان الناس عامة بحاجة إلى الرحمة والرعاية التي لا تضيق بضعفهم وجهلهم ، فإن حياة رسول الله " صلى الله عليه وسلم" مع الناس ـ وهديه الذي تركه للبشرية ـ كانت كذلك .
فما غضب لنفسه قط ، ووسع الناسَ حلمُهُ ورحمته وعطاؤه ، وما من أحد عاشره أو عامله إلا امتلأ قلبه بحبه ، لما أفاض عليه من نفسه الكبيرة الرحيمة ،
وسيرته وحياته "صلى الله عليه وسلم" مع المؤمنين والكافرين عامرة برحمته التي فتحت القلوب ، وأحيت النفوس ، والأمثلة في ذلك كثيرة منها :
عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ : "أن أعرابيا دخل المسجد ورسول الله "صلى الله عليه وسلم" جالس فصلى ركعتين ثم قال : اللهم ارحمني ومحمدا ولا ترحم معنا أحدا ، فقال النبي "صلى الله عليه وسلم" لقد تحجرت "ضيقت" واسعا، ثم لم يلبث أن بال في ناحية المسجد ، فأسرع الناس إليه فنهاهم النبي "صلى الله عليه وسلم" وقال : إنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين ، صبوا عليه سجلا من ماء أو قال ذنوبا من ماء ، "أبو داود" .
وفي رواية أحمد أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : لا تزرموه " لا تقطعوا عليه بوله " دعوه ، ثم دعاه فقال له : إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من القذر والبول والخلاء أو كما قال رسول الله ـ "صلى الله عليه وسلم" ، إنما هي لقراءة القرآن وذكر الله والصلاة " .
وعن أنس ـ رضي الله عنه ـ قال : "كان غلام يهودي يخدم النبي " صلى الله عليه وسلم " فمرض ، فأتاه النبي" صلى الله عليه وسلم" يعوده ، فقعد عند رأسه فقال له : أسلم ، فنظر إلى أبيه وهو عنده ،فقال : له أطع أبا القاسم "صلى الله عليه وسلم"، فأسلم ، فخرج النبي "صلى الله عليه وسلم" وهو يقول : الحمد لله الذي أنقذه من النار" ، "البخاري" .
وقد شعر الناس عامة وأصحاب النبي " صلى الله عليه وسلم" خاصة بالرحمة في سلوكه "صلى الله عليه وسلم " ، حتى يصفه أنس ـ رضي الله عنه ـ بقوله : "كان رحيما ، وكان لا يأتيه أحد إلا وعده و أنجز له إن كان عنده"، وفي حديث طويل لعمران بن حصين ـ رضي الله عنه ـ قال: " وكان رسول الله "صلى الله عليه وسلم" رحيما رقيقا "مسلم" .
وقال مالك بن الحويرث ـ رضي الله عنه ـ : "أتينا رسول الله "صلى الله عليه وسلم" ونحن شببة متقاربون فأقمنا عنده عشرين ليلة ، وكان رسول الله " صلى الله عليه وسلم" رحيما رقيقا فظن أنا قد اشتقنا أهلنا فسألنا عن من تركنا من أهلنا ، فأخبرناه ، فقال : ارجعوا إلى أهليكم فأقيموا فيهم وعلموهم ومروهم ، فإذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم ثم ليؤمكم أكبركم" ،"مسلم" .
ومن معالم رحمته " صلى الله عليه وسلم " أنه كان يختار التيسير ويأمر أصحابه بذلك ، فعن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت : "ما خُير رسول الله " صلى الله عليه وسلم " بين أمرين أحدهما أيسر من الآخر إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما ، فإن كان إثما كان أبعد الناس منه" ، "مسلم" .
وعن أبى موسى ـ رضي الله عنه ـ قال : كان رسول الله "صلى الله عليه وسلم" إذا بعث أحدا من أصحابه في بعض أمره قال: "بشروا ولا تنفروا ، ويسروا ولا تعسروا" ، "مسلم" .
وكان "صلى الله عليه وسلم" يخفف في صلاته رأفة بالناس ويقول :
"إذا صلى أحدكم للناس فليخفف ، فإن فيهم الضعيف والسقيم والكبير ، وإذا صلى أحدكم لنفسه فليطول ما شاء" ، "البخاري" .
وعن أبي قتادة "رضي الله عنه" عن النبي "صلى الله عليه وسلم" قال : (إني لأقوم في الصلاة أريد أن أطوِّل فيها ، فأسمع بكاء الصبي فأَتَجَوَّزْ "أخفف" في صلاتي ، كراهية أن أشق على أمه" ، "أحمد" .
هذه بعض معالم الرحمة المحمدية التي فتحت مغاليق القلوب ، واستطاعت أن تستوعب مختلف الطبائع والأجناس ، إذ شملت الصغار والكبار، والمؤمنين والكفار ، ورقَّت للضعيف ، وحنَّت على المسكين ، وغمرت اليتيم ، وعَمَّت الناس أجمعين ، قال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} "الأنبياء : 107" .