معلم في مهب الريح
شكلت أعداد المعلمين الذين تقدموا بطلبات تقاعد مبكر لهذا العام رقماً صعباً في معادلة التعليم. فللعام الأول نجد أن النسبة بين المعلمين والمعلمات قد تجاوزت النسبة المعقولة ليصل تقديرها من قبل بعض المصادر لنسبة 200%.
حقيقة لقد عشنا لعقود ونحن نردد مثاليات منها أننا لانعد من يمارس التعليم بأنه يؤدي مهنة بأي حال من الأحوال بل ننظر إليه باعتباره يؤدي رسالة تربوية سامية. ونسينا أو فلنقل تناسينا تحولات الزمن الوجودي وأنه مثلنا وكغيرنا من البشر له احتياجاته المعيشية والحياتية كما أن زمن الشعارات قد ولى فالمعلم يمارس مهنة ولكنه يؤديها وفق إيمانه الخاص بأنها تعد رسالة سامية.
بيد أننا فوجئنا في هذا العام والذي سبقه بهذه الزيادة المطردة والمخيفة في أعداد المتقدمين للتقاعد، فما الذي أدّى بحملة هذه الرسالة التعليمية من معلمين ومعلمات للعزوف عن الاستمرار في ممارستها وبالسعي لطلب التقاعد المبكر حتى يتخلصوا من تبعات ممارستها في المرحلة الراهنة ؟
أعتقد جاداً أن وزارتهم هي من تتحمل المسؤولية الأدبية والفعلية عن ذلك، فالإجابة تقبع في جملة ما أنتهجته وزارة التربية والتعليم منذ نهاية العام المنصرم من ممارسات، فقد دشنت الوزارة حزمة من المشاريع التطويرية التي هي أقرب للتجريب التربوي في بيئات تعليم أنموذجية ومجهزة بتقانة حديثة منها إلى مواءمة ميداننا التربوي بوضعه الراهن وتجهيزاته المتواضعة التي لاتخفى على أحد. في ذات الوقت الذي أُغْفِل فيه الاهتمام بالمعلم الذي يعتبر هو العصب الأساس للعملية التربوية والمنفذ للأداءات التدريسية من معادلة التطوير هذه أو حتى من إعطائه أبسط حقوقه أو اعتماد مزايا إضافية تجعل من الممارسة التعليمية عنصراً جاذباً ومحفزاً له وخاصة في ظل التقلبات الاقتصادية التي يشهدها العالم وانعكساتها على اقتصادات الدول العربية.
إذ نجد أنه على العكس من ذلك فمع الارتفاع المطرد الذي شهدته الأسعار في الداخل بقي كادر المعلم – سلم الرواتب – كما هو دون أن يطرأ عليه تغيير يذكر أو حتى تعتمد حوافز مشجعة للمعلم على التفاني في الأداء وتعزز من التصاقه بوظيفة التدريس. بل على النقيض فقد أغرق المعلم في نشاطات وممارسات بدعوى التطوير لا طائل منها بل إن جملة البرامج التدريبية التي كان من المفترض أن يخضع لها قد استبدلت ببرامج تعريفية لمدة 3 أيام في الإدارة التعليمية التي يخضع لها ومن مشرفين تربويين يفوقهم هذا المعلم في بعض الأحايين في المهارة والمعرفة والقدرة كما أن هذا المعلم أو تلك المعلمة قد وجدوا أنفسهم يغرقون في مزيد من الحصص التدريسية بدعوى التطوير دون طائل.
لتأتي قضية المؤشرات التدريسية لتشكل القشة التي قصمت عرى الثقة بين الوزارة وبين معلميها. إذ أن هذا المعلم قد فقد ثقته بوزارته في ظل تلك الأخبار التهويلية التي تخرج في شكل (أفيهات) هي أقرب للترهيب منها إلى التواصل الإنساني في إطار تربوي. كنية الوزارة للمطالبة برخصة المعلم من كل من يمارس التدريس وكذلك بأنها ستخضع هؤلاء المعلمين لاختبارات قدرات وقياس دوري وأن من لم يتجاوز فلا مكان له في هذه الوزارة. وغيرها من التسريبات التي تصدرعن الوزارة وتجعل المعلم يعيش في دائرة القلق.
علينا أن نقر أن أكبر فشل قد منيت به الوزارة مؤخراً أنها لم تستطع استقطاب هؤلاء المعلمين الذين يتسمون بمهنية عالية ممن تجاوزوا في الخدمة الـ 20 عاماً وأصبح يملك خبرة مهنية عالية تجعله قادراً على إحداث فرق في الممارسة التربوية. فتقاعد هؤلاء يعد خسارة للوزارة بوضعها الراهن الذي يتسم بالتذبذب وعدم الثبات في قراراتها التربوية والتعليمية بشكل عام.
أعتقد بأن وزارة التربية والتعليم مطالبة في المرحلة القادمة بمراجعة مواقفها وبإعادة الاهتمام بموظفيها عامة والمعلمين خاصة حتى لاتزداد نسبة التسرب بين المعلمين وتتصاعد حالة العزوف عن ممارسة مهنة التدريس وحينها يكون الوطن هو الخاسر.
معلم في مهب الريح
منقول
..
…