عندما تأكد رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتانياهو أن حظوظه في النجاح تراجعت، سارع إلى تفجير قنبلة سياسية على أمل تحقيق بعض التغيير، خصوصاً بعدما أعلن منافسه إسحق هرتسوغ أن عهد نتانياهو قد أفل، وأن شعاراته المغرية لم تعد كافية لتعويمه بعد ست سنوات من خيبات الأمل. اقتصرت القنبلة التي رماها رئيس الحكومة في ساعة الانتخابات على تعهده بألا يسمح بإقامة دولة فلسطينية إلى جانب دولة اليهود.
وكان بهذه المصارحة النابية يطمح إلى تحقيق هدفين مهمين: الأول، داخلي يتعلق بضرورة استمالة اليمين المتطرف والأحزاب الدينية المعارضة لمبدأ تنفيذ مشروع دولة فلسطينية. والثاني، خارجي يرمي إلى إحراج الرئيس الأميركي باراك أوباما الداعي إلى إقامة دولة فلسطينية تعيش في أمن وسلام إلى جانب الدولة الإسرائيلية.
وادّعى نتانياهو أثناء إعلان رفضه القاطع لإنشاء دولة فلسطينية أن هذه الدولة ستكون محكومة من متطرفين إسلاميين يريدون تدمير الكيان الصهيوني. التقدم السابق الذي أحرزه هرتسوغ، وفق استطلاعات الرأي، كان مرتبطاً بأسلوب مخاطبة الجماهير الناقمة على «ليكود»، إضافة إلى التركيز على القضايا الاجتماعية التي تهم الطبقة الشعبية وألوف العاطلين عن العمل. لكنه في الوقت ذاته تجاهل دور السلطة الفلسطينية، ووعد المستوطنين بالحفاظ على الكتل الاستيطانية داخل الضفة الغربية، كونها تمثل جداراً حيوياً لأمن إسرائيل. وشدد رئيس «المعسكر الصهيوني» أيضاً على أهمية بقاء القدس مدينة موحدة وعاصمة للشعب اليهودي.
في مقابل هذه المواقف السلبية المتشددة، وعد الفلسطينيين بتخفيض عدد الحواجز المعرقلة لتحركاتهم، واستخدام عدد أكبر من العمال، والإفراج عن الضرائب المحتجَزة.
يقول المراقبون إن هرتسوغ اعتمد على توقعات الصحف التي أعطته هامشاً واسعاً من التفوق على منافسه بنيامين نتانياهو. لذلك خفف من قوة الاندفاع التي ظهرت في بداية الحملة الانتخابية، وترك لأصدقائه الإعلاميين فرص التحدث عن الماضي المجيد الذي تحدَّر منه. أي الماضي الذي يشيد بمواقف والده حاييم هرتسوغ، رئيس إسرائيل السابق ومندوبها في الأمم المتحدة. كما يشيد بتعاليم جده إسحق هالفي هرتسوغ، أول حاخام لدولة إسرائيل. ومعروف أن عائلة هرتسوغ غادرت ايرلندا إلى فلسطين سنة 1936، أي قبل اثنتي عشرة سنة من إعلان دولة إسرائيل.
أما بالنسبة إلى نتانياهو، فتجاهل عملية إحياء ماضيه، وتشاغل بالدفاع عن حاضره الذي تناهشته الألسن بطريقة ألَّـبَتْ ضده السياسيين والعسكريين معاً. وتبرع للعب أدوار التجريح والانتقاد اللاذع اثنان من العسكريين سبق لهما أن خدما في قيادة «موساد» هما شابتي شافيت ومائير داغان. وركز الاثنان حملتهما على صاحب الشعر الفضي الذي نسف العلاقات مع الولايات المتحدة منذ سنة 2024، وعطّل مفاوضات السلام مع الفلسطينيين.
ويُستَدَل من مراجعة سجل نتانياهو في الحكم أن تسلقه بدأ عقب فشل إيهود باراك، والبحث عن بديل يتمتع بكفاءة سياسية مميزة. ومن هذه الثغرة أطل نتانياهو، مرشح الجالية اليهودية في الولايات المتحدة.
ولد نتانياهو في تل أبيب يوم 21 تشرين الأول (اكتوبر) 1949. وهو الابن الثاني بين ثلاثة أبناء للمؤرخ والباحث في التاريخ اليهودي بن صهيون نتانياهو. وقضت ظروفه العائلية بالانتقال إلى الولايات المتحدة، والسكن فيها ما بين عام 1963 وعام 1967. وعندما اندلعت حرب الأيام الستة، عاد إلى إسرائيل ليشارك في القتال. وبعد توقف الحرب التحق نتانياهو بقيادة الأركان. وهو يفاخر بأنه شارك في عملية إنقاذ ركاب طائرة «سافنا» التي اختُطِفَت في منطقة اللد.
وفي مرحلة لاحقة، ترك نتانياهو الجيش وعاد إلى الولايات المتحدة ليكمل دراسته ويتخصص في الهندسة المعمارية. ومن بعدها التحق بجامعة «ام اي تي» حيث حصل على ماجستير في إدارة الأعمال. وفي تشرين الأول (اكتوبر) 1973، اندلعت حرب العبور، فاضطر نتانياهو إلى مغادرة أميركا والالتحاق بالجيش. عام 1976، فقدَ شقيقه الأكبر جوناثان، أثناء محاولة تحرير مختطـَفين في عنتيبي. ورثاه وحزن لفقدانه بحيث أنه أسس باسمه مركزاً لمحاربة الإرهاب في واشنطن.
وقبل دخوله عالم السياسة والديبلوماسية، عمل لفترة قصيرة مديراً لمبيعات مصنع «ريم» للأثاث المنزلي في القدس. ثم استقال من هذه الوظيفة ليتفرغ لمنصب سفير إسرائيل في الأمم المتحدة. وأتاحت له تلك المهمة الديبلوماسية فرص التعرف إلى الجالية اليهودية التي تغذي إسرائيل بالمال والسلاح… والتي تعتبر أكبر جالية يهودية في العالم (نحو ستة ملايين نسمة).
النتائج النهائية التي صدرت الأربعاء الماضي أعطت نتانياهو مقاعد في الكنيست العشرين لم يكن يحلم بحيازتها. فقد منحت حزبه ثلاثين مقعداً، أي بزيادة 9 مقاعد عن الدورة السابقة. وأعطت القائمة العربية المشتركة 14 مقعداً. وبما أن الناخبين العرب يمثلون ما نسبته 14 في المئة من أصحاب حق الاقتراع، فقد ناشدهم رئيس القائمة المحامي أيمن عودة المساهمة في ممارسة هذا الحق. ويبدو أن التجاوب كان كبيراً بدليل أن نسبة المقترعين العرب وصلت إلى 71 في المئة. وهي نسبة توازي نسبة التصويت لدى اليهود.
رئيس القائمة المشتركة شجع المقترعين والمقترعات على المساهمة في فرص تحسين الواقع الذي يعيشه الفلسطينيون في ظل الاحتلال الإسرائيلي. وقال إن المكاسب المحلية ستكون مضاعفة في حال استمرت وحدة الصف، الأمر الذي يساعد على خوض معركة وحدة المصير. وأنكر في حديثه إلى الصحف أن يكون هذا التجمع الاختياري بديلاً من السلطة الفلسطينية، أو البديل من الأحزاب القائمة مثل «فتح» و «حماس» و «الجهاد الإسلامي». وقال أيضاً إن الحكومات الإسرائيلية مضطرة إلى التعاطي مع هذه الظاهرة بكثير من الاحترام والتقدير لحقوق المواطنين الفلسطينيين.
وترى السلطة الفلسطينية أن حصيلة القائمة العربية المشتركة يمكن توظيفها لإحداث تغيير في الموقف الإسرائيلي السلبي. ومن هذه الحقيقة ينطلق السؤال المهم: كيف سيترجم نتانياهو فوزه أثناء تشكيل الحكومة؟
المؤشرات الأولى تدل على أنه سيتجاهل «المعسكر الصهيوني» وزعيمه هرتسوغ. وهذا معناه التركيز على استقطاب الأحزاب اليمينية المتطرفة زائداً الأحزاب الدينية. علماً أن هرتسوغ أعرب عن رغبته في البقاء خارج الحكم بحيث يظل الملجأ الأخير للمعارضة السياسية وكل العاطلين عن العمل. أي أنه سيهتم بمعالجة القضايا الاجتماعية، إضافة إلى مشكلات المستوطنين.
الإدارة الأميركية لم تكن مسرورة بهذه النتيجة، مع أن الوزير جون كيري أسرع لتقديم التهاني إلى الفائز الذي اختار الكونغرس لانتقاد سياسة الرئيس باراك أوباما. لكن واشنطن مضطرة إلى تحسين شبكة العلاقات مع «ليكود»، بهدف ضبط الإيقاع السياسي الذي يظهره نتانياهو حيال توسيع رقعة التجمعات الاستيطانية.
الصحف الإسرائيلية المعارضة لتوجهات «ليكود» كتبت تقول أن نتانياهو ضلل الناخبين عندما ادّعى بأنه لن يقبل بإقامة دولة فلسطينية داخل إسرائيل الكبرى. وادّعى أيضاً أن هذا الوعد جاء مطابقاً لرغبة والده الذي طالبه بالحفاظ على كل أرض إسرائيل. تماماً كما طالبه بالحفاظ على وحدة القدس، عاصمة أبدية لإسرائيل.
ومثل هذا الموقف المتشدد يمكن أن يمزق كل الاتفاقات التي عقِدَت باسم خطة السلام، وباسم التفاوض على أساس حدود العام 1967. وفي حال قبـِل أبو مازن بهذا التعديل، فإن القدس الشرقية لن تكون عاصمة لدولة فلسطين.
على كل حال، تنتظر «حماس» بفارغ الصبر إعلان «مانيفستو» حكومة نتانياهو المعدَّة للظهور في أقرب فرصة. ويؤكد المقربون من الرئيس محمود عباس أن تكرار فكرة إلغاء الدولة الفلسطينية سيدفعه إلى تقديم استقالته من قضية جيَّرها له ياسر عرفات.
ومع الاستقالة تبدأ الانتفاضة الثالثة التي تنتظرها «حماس» بفارغ الصبر!