تخطى إلى المحتوى

الأزمات مثل النوبات القلبية تترك آثاراً طويلة الأمد

الأزمات مثل النوبات القلبية.. تترك آثاراً طويلة الأمد
خليجية تعاني الاقتصادات الرئيسية ذات الدخل المرتفع، الولايات المتحدة الأميركية ومنطقة اليورو واليابان وبريطانيا، من أعراض خلل مزمن في الطلب. وبدقة أكبر، فشلت القطاعات الخاصة فيها في الانفاق بما يكفي لأن يقترب الانتاج من امكاناته الفعلية دون الوقوع تحت وطأة اغراءات السياسات النقدية البالغة القوة والعجز الكبير في الميزانية أو كلاهما معا. وقد ابتليت اليابان بأعراض نقص الطلب منذ أوائل تسعينات القرن الماضي فيما أصابت باقي الاقتصادات منذ 2024. ما الذي يجب عمله حيال هذا الأمر؟ للاجابة عن هذا السؤال، يجب فهم العلة والداء أولا.

الأزمات هي كالسكتة القلبية التي تصيب النظام المالي، وتكون ذات آثار مدمرة محتملة على الاقتصاد. دور الطبيب الاقتصادي هو ابقاء المريض على قيد الحياة: منع انهيار النظام المالي والحفاظ على استمرار الطلب. القلق بشأن أسلوب حياة المريض لا يكون أثناء اصابته بالأزمة القلبية فما يهم هو الابقاء عليه حيا.

ومثل النوبات القلبية، تترك الأزمات المالية آثارا طويلة الأمد. أحد أسباب ذلك يكمن في الضرر الذي أصاب القطاع المالي نفسه. وسبب آخر يتمثل في فقدان الثقة بالمستقبل. الا أن هناك سببا آخر يجعل من الدين الذي يتراكم في الفترة التي تسبق الأزمة غير محتمل. وما يحدث حينها هو «ركود في الميزانية»، وهي الفترة التي يكون فيها تركيز المدين منصبا على سداد الديون. سياسة ما بعد الأزمة يجب أن تعوض أو تسهل عملية تخفيض الديون التي يقوم بها القطاع الخاص. السياسات المالية والنقدية الداعمة يمكن أن تساعد في الأمرين. ومن دون وجود هذه السياسات سيحدث على الأرجح انخفاضات حادة كما حصل في الدول الأعضاء في منطقة اليورو التي ضربتها الأزمة.

اعادة هيكلة الديون عملية متممة ومكملة لتخفيض الديون. الكثير من الاقتصادات أوصت باعادة الهيكلة هذه كجزء أساسي من الحل. في قطاع الأسر على الأقل، قامت الولايات المتحدة بمهمة أفضل بكثير مما قامت به منطقة اليورو.

لكن تنظيم عملية اعادة هيكلة الديون صعبة للغاية طالما رفض المقترضون الاعتراف بالهزيمة. وهو أمر ينطبق على القطاع الخاص وينطبق بصورة أكبر على القطاع العام. وهذا هو أحد أسباب استمرار عبء تراكم الديون لفترة طويلة.

بيد أن هناك احتمالات أكثر ازعاجا من عبء تراكم الديون. في كتابي «التحولات والصدمات»، أشير الى أن عددا من التحولات في الاقتصاد العالمي خلقت طلبا ضعيفا بشكل مزمن في غياب طفرات الائتمان. ومن بين تلك التحولات فائض المدخرات في الاقتصادات الناشئة والتحولات في توزيع الدخل والشيخوخة والتراجع الحاد في النزعة للاستثمار في البلدان ذات الدخل المرتفع. ويكمن خلف تلك التحولات، من بين أمور أخرى، العولمة والابتكارات التكنولوجية والدور المتنامي للقطاع المالي. ليس كافيا الاكتفاء بتنظيف الفوضى التي حصلت في أعقاب انهيار طفرة الدين. بل يجب على صانعي السياسات أن يقضوا على مسألة الاعتماد على الائتمان الذي لا تملك الدولة أو المؤسسة قدرة على سداده والايفاء بالتزاماته.

ومن دون القيام بذلك، فحتى عملية تنظيف جذرية لن تنجح في تنشيط الطلب. صحيح أنه اذا كان البلد صغيرا، قد يكون قادرا على استيراد الطلب المفقود من خلال الحساب الخارجي. لكن عندما يكون هناك أجزاء كبيرة جدا من الاقتصاد العالمي مصابة بالعلة نفسها، يكون هناك حاجة لحلول بديلة. وهناك ثلاثة بدائل: التعايش مع ضعف الطلب المزمن أو تشغيل سياسات شرسة فيما يتعلق بالطلب (كما فعلت اليابان) أو اصلاح الضعف الهيكلي الأساسي في الطلب.

ويمكن أن تساعد السياسة النقدية المفرطة في شدتها من خلال معدلات أسعار فائدة أقل من الصفر. والبديل عن ذلك يتمثل في العجز المالي. لكن ذلك يهدد بوضع الدين على مسار ارتفاع دائم. وهناك بديل غير تقليدي آخر يتمثل في التمويل النقدي الصريح للعجز المالي، كما أوصى أديير تيرنر، رئيس مجلس الادارة السابق لسلطة الخدمات المالية البريطانية. ويعني ذلك تأميم عرض النقد وطباعة النقود التي تخصص وتوجه اليوم للبنوك الخاصة غير المسؤولة. وهذه وسيلة أكثر مباشرة

(وربما أكثر فعالية) لاستخدام صلاحية البنك المركزي في التوسع في عرض النقد وطباعة النقود لزيادة الطلب بدلا من توظيفها بصورة غير مباشرة، من خلال التلاعب في أسعار الأصول. ويبدو تسييل العجز منطقيا بشكل خاص في اليابان.

البديل هو في التصدي ومعالجة مصادر الضعف الهيكلي في الطلب. احدى السياسات التي يمكن تبنيها تكمن في اعادة توزيع الدخل من المدخرين الى المنفقين. وأخرى تتمثل في تشجيع الانفاق. ولهذا السبب كانت زيادة ضريبة الاستهلاك في اليابان عبارة عن تصور خاطئ. اذ ينبغي على اليابان أن تفرض ضرائب على الادخار بدلا من الاستهلاك. وفي هذا انتهاك للتحيز الدائم تجاه الادخار باعتباره قيمة اقتصادية. لكن في عالم يعاني من أعراض نقص الطلب، لا يكون الوضع كذلك. ولهذا يجب عدم التشجيع على الادخار غير المثمر.

وراء كل العلل التي أصابت العالم في مرحلة ما بعد الأزمة واستمرار ضعف الطلب، ربما يكمن ضعف هيكلي في المعروض. والحل هو في التشجيع على العمل والاستثمار والابتكار. بيد أن السياسات التي صممت لتعزيز العرض يجب ألا تضعف في الوقت نفسه الطلب. وهذه واحدة من الصعوبات التي تأتي مع التوصيات النمطية لاصلاح سوق العمل، والتي تستلزم تخفيض الأجور لنسبة كبيرة من القوة العاملة، وجعل عملية الفصل والتوظيف أكثر سهولة بالنسبة لصاحب العمل. وهو ما من شأنه على الأرجح أن يخفض الاستهلاك على الأقل في المدى المتوسط، كما تظهر تجربة ألمانيا في العقد الأول من هذه الألفية. الاصلاحات يجب أن تعزز الطلب. ولهذا يجب أن تستقر منطقة اليورو على حزمة حلول متوازنة بدلا من الاعتماد على اصلاحات هيكلية مغالى فيها.

تركت الأزمة ارثا مخيفا ومحبطا. وكان تصدي منطقة اليورو لهذه الأزمة أسوأ بكثير مما فعلت، الولايات المتحدة. لكن أصول الأزمة موجودة في الضعف الهيكلي على المدى الأبعد. وينبغي على السياسات أن تعالج هذا القصور والخلل أيضا حتى لا يكون الخروج من الأزمة هو بداية الرحلة نحو الأزمة التالية. ومن المحتمل ان تكون الحلول غير تقليدية، لكن الوضع الاقتصادي الراهن هو أيضا غير تقليدي. الأمراض النادرة تحتاج الى علاجات غير اعتيادية، لهذا ابحثوا عنها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.