إن منافع وضمانات القرن العشرين لا تليق بعمال القرن الحادي والعشرين..
هذا العام كان عام شركة أوبر. وكما أفاد موريس ليفي المدير التنفيذي لمجموعة بوبليسيس للإعلانات في حديث مع «فايننشال تايمز»، فإن «كل شخص بدأ يقلق من احتمال أن يصبح جزءا من نظام أوبر هذا».
مع ظهور الاقتصاد التقاسمي الذي تقوم، بناء عليه، منصات خاصة عاملة على الشبكة العنكبوتية بالتنسيق بين مئات الآلاف من العاملين لحسابهم الخاص لقيادة سيارات الأجرة، تأجير الغرف Airbnb، غسل الملابس Washio، وتقديم الخدمات الأخرى، إن شركات أدركت التهديد القائم، وبدأت الحكومات والهيئات المنظّمة بالنضال للتعديل، في وقت بات فيه المستهلكون غير متأكدين إذا ما كان عليهم أن يثقوا بالنوع الجديد من التجارة، ولكن أكبر شك في هذا السياق يراود العمال. الأشخاص الذين يعملون لحسابهم الخاص، أو الذين أطلقوا شركات حديثة، أو الشخص الوحيد الذي يمارس «الأعمال التجارية الدقيقة»، باتوا يشكّلون في الواقع الحصة الأكبر من قوة العمل، بينما أصبح العمال يتمتعون بحرية أكثر ويعانون في الوقت نفسه من خطر أكبر.
فبدلا من العمل كموظفين عاديين وفق عقود عمل طويلة الأجل، والحصول على منافع مثل التدريب، والتأمين الاجتماعي والرعاية الصحية، يقومون بتوظيف أنفسهم. الموظفون لفترات عمل كاملة يمارسون أعمالا جانبية، أما هؤلاء الموظفون لفترات عمل جزئية، فيقودون سيارات الأجرة لتوفير المال الإضافي، بينما يترك المديرون أعمالهم ليتحولوا إلى مستشارين، إلى أشخاص يحاولون التوفيق بين المهارات المختلفة.
كثيرون يتمتعون بحب المغامرة والتحدي، ولكن قليلين يشعرون بالأمان. في هذه الأثناء نبقى عالقين مع ترتيبات القرن العشرين لتوفير منافع العمل والضمان – واحدة من السمات المميزة للمجتمع الصناعي المتطور – التي لا تناسب عمال القرن الواحد والعشرين. نحن بأمس الحاجة لإيجاد أساليب جديدة لا تربط كل هذه الإكراميات مع التوظيف المباشر وتترك الأشخاص الذين يريدون العمل بشكل مختلف على قارعة الطريق.
بعض هذه التحديات تقع على كاهل الحكومات والبعض الآخر على الأشكال الجديدة من المنظمات المتبادلة، مثل التعاونيات التي كانت قائمة خلال القرن التاسع عشر، كما أن ذلك يتطلب منصّات مثل «أوبر» كي تتحمل مسؤولية أكبر عن أشباه الموظفين الذين يتم إبقاؤهم على مسافة بهدف التقليل من الالتزامات والتكاليف. البديل هو قوة عمل مجزّأة بشكل كبير وغير مضمونة، ولا يمكنها بالتالي دعم نفسها.
«إن المداخيل الثابتة وشبكة السلامة الاجتماعية تعتبر من خصائص الاقتصاد الصحي الذي انتقل من الماضي، حيث كان بكل بساطة يوفر العمل للناس من أجل العيش» كما يفيد آرون سونداراريان البروفيسور في جامعة ستيرن بنيويورك «أخشى أن يفلت هذا الأمر من أيادينا».
اقتصاد المشاركة ليس مسؤولا بشكل حصري. إنها السلسلة الأحدث من التغييرات الحاصلة في التكنولوجيا، التغييرات والاقتصادات التي خلقت نموذج توظيف جديدا. كانت تتطور لعقود، ولكنها تحصل حاليا على دفعة من الإنترنت.
يتوقع اتحاد الأعمال الحرة، وهي مجموعة تتخذ من نيويورك مقرا لها، أن نحو 53 مليون شخص يعملون في وظيفة حرة واحدة على الأقل في الولايات المتحدة الأميركية – أي ثلث القوى العاملة. هذا يشمل 21 مليونا من المتعاقدين مثل السائقين وعمال البناء، و14.3 مليونا ممن يقومون بأعمال جزئية إلى جانب أعمالهم التي يمارسونها بناء على عقد عمل كامل. ثلث المجموعة الأخيرة فكّروا بتوظيف أنفسهم بشكل كامل.
يوجد توجه مماثل لذلك في المملكة المتحدة. فمن بين الارتفاع الحاصل في العمالة وقوامه 1.1 مليون شخص بين عام 2024 والربع الثاني من هذا العام، كان هناك 732 ألف شخص يوظفون أنفسهم بأنفسهم. وكشفت دراسة أعدها مركز العمل والبحوث RSA في لندن، أن 600 ألف من التجارات الصغيرة (التي تضم حتى تسعة أشخاص) تأسست خلال تلك الفترة، وأن %95 من التي تأسست خلال العقد الماضي هي لشخص واحد.
هذا الأمر يوصف غالباً من قبل الاتحادات العمالية بأنه انتصار للرأسمال على العمل، ولكن له منافع للعمال. كثيرون يريدون التخلص من العمل الشاق في المكاتب والحصول على الاستقلالية – هؤلاء الذين يعملون لحسابهم الخاص يفيدون غالباً أنهم أسعد من الموظفين بشكل مباشر. والنمو الحديث الأكثر حدة في بريطانيا في ما يخص التوظيف الخاص لم يكن بين عمال العقود من أصحاب الرواتب الأقل، بل تشكّل من كبار الموظفين والمديرين.
ولكن نمو الاقتصاد الذي يعتمد على من يعملون لحسابهم الخاص يفرض تحدّيين اثنين.
أولاً، بعض الوظائف الحرة تكون في الواقع أشكالا رخيصة من التوظيف المباشر. الشركات تصف العمال «بالمتعاقدين المستقلين» كي تتجنب دفع ضرائب التوظيف والمنافع غير المباشرة بينما تعاملهم كموظفين – يجب عليهم مثلا ارتداء البذات الموحّدة، وإطاعة القوانين وغير ذلك من الأمور. وكثير منهم هم عمّال يحصلون على أجر قليل، مثل سائقي إيصال البضائع أو عمال المخازن.
هذا مشكوك به من الناحية القانونية، حيث إن العديد من الدول تفرض قوانين ضد صورية التوظيف الذاتي. في أغسطس أصدرت محكمة الاستئناف في الولايات المتحدة حكما ضد شركة فيدإكس بسبب تصنيفها سائقي إيصال البضائع في كاليفورنيا كعمال متعاقدين، بينما كانوا في الواقع موظفين مباشرين. أحد القضاة استشهد بعبارة ساخرة لأبراهام لينكولن أفاد فيها، أن وصف ذيل الكلب بأنه قدّم لا يجعل من الحيوان المذكور كلباً بخمسة أقدام.
معظم شركات الاقتصاد التقاسمي، بما فيهم «أوبر»، تصنّف مزوّدي خدماتها كمتعاقدين بينما تصر مثلا بأن يقودوا سياراتهم الخاصة. بعض السائقين في الولايات المتحدة تقدموا بشكوى قانونية بسبب ذلك، ولكن الاقتصاد التقاسمي ما زال حديث العهد كي يتم إخضاعه لمبدأ المحاسبة.
ثانياً، حتى لو كان العمال موظفين لحسابهم الخاص، فإن الشركة أو المنصة التي تجدول العمل والأوامر لهم يمكنها أن تختار بأن تقدم لهم أكثر من الحد الأدنى من المنافع. أرباب العمل يوفّرون بشكل تقليدي خطط الرعاية الصحية والاجتماعية، إضافة للتدريب، وذلك بهدف خلق قوة عمل منتجة يمكن الاعتماد عليها. هذا أكثر كلفة طبعاً، ولكن إذا كان يؤتي ثماره في مستوى الخدمات التي توفرها، فإن ذلك سيساعدها بالتغلب على المنافسين من ذوي الجودة المنخفضة.
إذا تنازلت الشركات عن الدور المنوط بها، فإن المجتمع بحاجة عندئذ إلى ابتكار طرق أخرى لتقديم الدعم طويل الأمد والضمان للموظفين الذين يعملون لحسابهم الخاص، مثلما كان يسعى لذلك اتحاد الأعمال الحرة وغيره. ثمة حاجة لتغييرات طويلة الأمد لدعم العاملين لحسابهم الخاص كي يعملوا وفق الطريقة التي يفضلوها، بدلاً من إجبارهم على الانتقال إلى الوظيفة المباشرة لأنها الطريقة الوحيدة للشعور بأمان.