ما حكم التصدق بالمال لمن في مرض الموت
عن أبي إسحاق سعد بن أبى وقاص مالك بن أهيب بن عبد مناف
ابن زُهرةَ بن كلاب بن مُرَّة بن كعب بن لؤي القرشيُّ الزُّهْريِّ
رضي الله عنه، أحدِ العشرةِ المشهودِ لهم بالجنةِ، رضي الله عنهم، قال:
( جاءني رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يعُودُنِي عام حَجَّةِ الوداعِ
مِنْ وجع اشتّدَّ بي، فقُلتُ : يا رسولَ اللهِ إنِّي قد بلغَ بيْ مِنَ الوجعِ
ما ترى، وأنا ذو مالٍ ولا يَرِثُني إلا ابنةٌ لي ، أفأتصدَّق بثُلُثَيْ مالي؟
قال: لا ، قلت : فالشَّطْرُ يا رسول الله؟ قال: لا قلت: فالثُّلُثُ
يا رسول الله ، قال: الثُّلُثُ والثُّلُثُ كثيرٌ – أو كبيرٌ- إنَّك أنْ تذرْ
وَرَثتَك أغنياءَ خيرٌ مِنْ أنْ تَذرَهُمْ عالةٌ يَتكَفَّفُون الناسَ، وإنك لن
تنفقَ نفقةٌ تبتغِي بها وجْه الله إلا أُجِرْتَ عليها، حتى ما تجعلُ فِي
فِيْ امرأتك . قال: فقلت: يا رسول الله أُخلَّفُ بعد أصحابي؟ قال:
إنك لن تُخَلَّفَ فتعملَ عملاً تبتغي به وجهَ الله؛ إلا أزْدَتَ بهِ درجةً
ورِفْعةً، ولعلكَ أنْ تُخلَّفَ حتى ينتفعَ بِكَ أقوامٌ ويُضرَّ بكَ آخرون.
اللهم أمضِ لأصحابي هجرَتُهم، ولا تَردَّهُمْ على أعْقابِهم، لكنِ
البائسُ سعْدُ بنُ خَوْلةَ )
يَرْثي لهُ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أنْ ماتَ بمكةَ.
أخرجه البخاري ومسلم [ متفق عليه].
——————————–
الشرح
قال المؤلف – رحمه الله تعالى – فيما نقلَهُ عن سعد بن أبي وقَّاص
ألمَّ به، وذلك في مكة، وكان سعد بن أبي وقاص – رضي الله عنه – من
المهاجرين الذين هاجروا من مكة إلى المدينة، فتركوا بلدهم لله عز وجل،
وكان من عادة النبي صلى الله عليه وسلم أنه يعودُ المرضى من أصحابه
كما أنه يزورُ مَنْ يزورُ مِنهم؛ لأن صلى الله عليه وسلم كان أحسن الناس
خُلُقاً؛ على أنه الإمام المتبوع. صلواتُ الله وسلامه عليه، كان من أحسن
الناس خلقاً ، وألينهم بأصحابه، وأشدّهم تحبُّبَا إليهم . فجاءه يعوده، فقال:
يا رسول الله:
( إنِّي قدْ بلغَ بي من الوجعِ ما تَرى )
أي: أصابه الوجع العظيم الكبير.
( وأنا ذو مالٍ كثيرٍ – أو كبيرٍ -)
أي: أن عنده مالاً كبيراً.
( ولا يرثُني إلا ابنةٌ لي )
أي: ليس له ورثة بالفرض إلا هذه البنت.
( أفأتصدق بثُلُثَي مالي )
يعني بثلثيه: اثنين من ثلاثة!
( قال: لا. قلتُ: الشَّطرُ يا رسول )
أي: بالنصف.
( قال : لا . قلتُ: بالثُّلُثِ . قال: الثُّلُثُ والثُّلُثُ كثيرٌ).
فقوله : ( أفأتصدَّق ) أي أعطيه صدقة؟
فمنع النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك؛ لأن سعداً في تلك الحال كان
مريضاً مرضاً يخشى منه الموت، فلذلك منعه الرسول صلى الله عليه وسلم
أن يتصدق بأكثر من الثلث.
لأن ماله قد تعلّق به حق الغير؛ وهم الورثة.
أما من كان صحيحاً ليس فيه مرض، أو فيه مرض يسير
لا يُخشى منه الموت،
فلَهُ أن يتصدَّق بما شاء؛ بالثلث، أو بالنصف، أو بالثلثين،
أو بماله كله، لا حرج عليه.
لكن لا ينبغي أن يتصدق بماله كلَّه؛ إلا إنْ كان عنده شيء يعرف أنه
سوف يستغني به عن عباد الله. المهم أن الرسول صلى الله عليه وسلم
منعه أن يتصدق بما زاد عن الثلث.
وقال:
( الثُّلُثُ، والثُّلُثُ كثيرٌ – أو كبيرٌ – )
وفي هذا دليلٌ على أنَّه إذا نقص عن الثلث فهو أحسن وأكمل؛
ولهذا قال ابن عباس رضي الله عنهما:
( لو أن الناس غَضُّوا من الثلث إلى الرُّبع )
لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
( الثُّلُثُ والثُّلُثُ كثيرٌ )
وقال أبو بكر رضي الله عنه:
( أرضى ما رَضِيَهُ الله لِنَفْسِه )
يعني: الخُمُس ، فأوصَى بالخُمُسِ رضي الله عنه.وبهذا نعرف أن عمل
الناس اليوم؛ وكونهم يُوصون بالثلث؛ خلافُ الأولى، وإن كان هو جائزاً.
لكن الأفضلَ أن يكون أدنى من الثلث؛ إمَّا الربع أو الخمس.قال فقهاؤنا
رحمهم الله والأفضلُ أن يُوصِيَ بالخُمس، لا يزيد عليه ؛ اقتداءٌ
بأبي بكر الصديق رضي الله عنه.
ثم قال الرسول عليه الصلاة والسلام:
( إنك إن تذرْ ورثَتَكَ أغنياءَ خيرٌ من أنْ تَذَرَهُم عالةٌ يَتَكَفَّفُون الناس )
أي : كونُك تُبقي المال ولا تتصدق به؛
حتى إذا مُتَّ ووَرِثَهُ الورثة صاروا أغنياء به،
هذا خيرٌ من أن تَذَرهم عالةٌ، لا تترك لهم شيئاً
( يتكفَّفون الناس )أي:
يسألون الناس بأكُفِّهم ؛ أعطونا أعطونا. وفي هذا دليلٌ على أن الميِّت إذا
خلَّف مالاً للورثة فإن ذلك خيرٌ له. لا يظنُّ الإنسان أنه إذا خلف المال،
ووُرِثَ منه قهراً عليه، أنَّه لا أجر له في ذلك! لا بل له أجر،
حتى إن الرسول – عليه الصلاة والسلام – قال:
( إنك إن تذرَ ورثتك أغنياء خيرٌ من أن تذرهم عالة…إلخ )
لأنك إذا تركت المال للورثة انتفعوا به، وهم أقارب ، وإن تصدَّقت به
انتفع به الأباعد، والصدقةُ على القريب أفضل من الصدقة على البعيد،
لأنَّ الصدقة على القريب صدقةٌ وصلةٌ.
ثم قال
( إنك لن تنفق نفقةً تبتغي بها وجهَ اللهِ إلا أُجِرتَ عليها،
يقول: لن تنفق نفقة؛ أي: لن تنفق مالاً؛ دراهمَ أو دنانيرَ أوثياباً، أو فرشاً
أو طعاماًأو غير ذلك تبتغي به وجه الله إلا أُجِرْتَ عليه.
الشاهد من هذا قوله:
( تبتغِي به وجهَ اللهِ )
أي : تقصد به وجه الله عز وجل، يعني تقصد به أن تصل إلى الجنَّة؛
حتى ترى وجه الله عز وجل. لأن أهل الجنَّة – جعلني الله وإياكم منهم –
يرون الله سبحانه وتعالى، وينظرون إليه عياناً بأبصارهم ، كما يرون
الشَّمس صحْواً ليس دُونها سحاب، وكما يرون القمر ليلة البدر.