لفظ الابتلاء مأخوذ من مادة (ب ل و) التي تدل على نوع من الاختبار. ويكون البلاء بالخير والشر، واللّه عز وجل يبلي العبد بلاء حسنا وبلاء سيئا، وذلك راجع إلى معنى الاختبار لأنه بذلك يختبر صبره وشكره، وبلوته تأتي أيضا بمعنى جزيته (مقاييس اللغة لابن فارس).
والابتلاء اصطلاحًا هو: التكليف في الأمر الشّاقّ، ويكون في الخير والشر معًا، ولكنهم (عادة ما) يقولون: في الخير أبليته إبلاء وفي الشر: بلوته بلاء (الكليات للكفوي). وقال المناوي: البلاء كالبلية: الامتحان، وسمي الغم بلاء لأنه يبلي الجسد.
مظاهر الابتلاء
– الابتلاء بالضراء أو الشر:
وهو الذي يراد بالابتلاء أو الفتنة عند الإطلاق، وقد تخفى حكمة هذا النوع على الكثيرين، إذ قد يراد به اختبار الصدق في الإيمان، والصبر على الجهاد في سبيل اللّه، قال تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ} [محمد:31]. وقد يراد به التمهيد والتدريب على التمكين في الأرض، نظرا لما يعقب هذا الابتلاء من الصبر في الشدائد وتحمّل المشاق، واليقين بأن للّه تعالى حكمة في كل ما يصيب الإنسان من خير أو شر، قال تعالى: {وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ} [السجدة:24]، وقد أخبر المصطفى صلّى اللّه عليه وسلّم أن جزاء الصابرين على الابتلاء بالضراء هو الجنة، فقال عليه الصلاة والسلام: «يقول المولى عز وجل: إذا ابتليت عبدي بحبيبتيه فصبر عوضته عنهما الجنة يريد عينيه»، وقال عليه الصلاة والسلام: «من ابتلى بشيء من البنات فصبر عليهن كنّ له حجابا من النار».
2- الابتلاء بالمعاصي أو السيئات:
وهذا المظهر لا يقل عن سابقه من حيث خطره وتأثيره في حياة الأمم أو الأفراد، وقد كان آدم أبو البشر هو أول من تعرض لهذا النوع من الابتلاء عندما أكل من الشجرة التي نهاه اللّه عنها. وقد أشار ابن قيم الجوزية إلى ثمرة هذا الابتلاء عندما قال: "لو لم تكن التوبة أحبّ إلى اللّه لما ابتلى بالذنب أكرم المخلوقات عليه (آدم عليه السلام) فالتوبة هي غاية كل كمال آدمي وقد كان كمال أبينا آدم عليه السلام بها" (مفتاح دار السعادة).
3- الابتلاء بالسراء أو الخير:
يبتلى الإنسان على المستوى الشخصي بالنعماء أو الخير فتنة وتمحيصا، وذلك بأن يعطيه اللّه المال والجاه أو العافية والمنصب والأولاد ونحو ذلك، وهذا المظهر من أهم مظاهر الابتلاء نظرا لما يعقبه من شكر للنعمة أو كفر بها، قال تعالى فيما يحكيه القرآن عن سيدنا سليمان: {قالَ هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ} [النمل:40]، وشكر النعمة يعقبه زيادتها، أما كفرانها فإنه يورث الطغيان والكبر والعجب والخيلاء ونحو ذلك من أمراض القلوب، وقد حذّرنا المولى سبحانه من عاقبة النعماء، خاصة إذا تعلّق الأمر بالأموال والأولاد أو الأزواج، فقال عزّ من قائل: {وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [الأنفال:28].
4- الابتلاء بالطاعات:
كما يبتلى الإنسان بالمعصية لتتاح له فرصة التوبة والاستغفار ونحو ذلك، فإنه يبتلى أيضا بالطاعات ليشكر ربه على ما هداه إليه، وإلى هذا أشارت الآيات الكريمة {وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ . قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ . إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ} [الصافات:104-106]. وقد ضرب القرآن الكريم في قصة ابني آدم (قابيل وهابيل) أروع مثلين للابتلاء بالطاعة والمعصية، حيث كان أحدهما يمثل أقصى حالات الطاعة والتقوى، والآخر يمثل أقصى حالات المعصية المتمثلة في القتل، تأمل قوله تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبا قُرْباناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قالَ إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ . لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ . إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ . فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ} [المائدة:27-30].
ابتلاء التكليف وابتلاء الفتنة:
وبالتمعن في هذه المظاهر الأربعة للابتلاء فإنه يمكن إرجاعها إلى مظهرين اثنين: الأول: ابتلاء التكليف ويشمل الابتلاء بالحسنات أو السيئات، بالطاعات أو المعاصي، يقول اللّه تعالى فيما يتعلق بهذا النوع الأول: {إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً . إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً} [الإنسان:2،3]، والآخر: ابتلاء الفتنة، ويشمل الابتلاء بالسراء أو الضراء، يقول اللّه تعالى في هذا النوع: {كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ} [الأنبياء:35].
الفتنة لغة:
الفتنة مصدر قولهم: فتنه يفتنه فتنًا وفتنة، وهي مأخوذة من (ف ت ن) التي تدل على الابتلاء والاختبار، وأصل الفتن إحراق الشيء بالنار لتظهر جودته من رداءته.
الفتنة اصطلاحًا:
تعني الفتنة ما يبين به حال الإنسان من الخير والشر. وقال المناوي: الفتنة: البلية وهي معاملة تظهر الأمور الباطنة.
أنواع الفتنة:
يقول ابن القيم: "الفتنة نوعان: فتنة الشبهات. وهي أعظم الفتنتين، وفتنة الشهوات. وقد يجتمعان للعبد. وقد ينفرد بإحداهما.
أما النوع الأول وهو فتنة الشبهات من ضعف البصيرة، وقلة العلم، ولا سيما إذا اقترن بذلك فساد القصد، وحصول الهوى.
وهذه الفتنة مآلها إلى الكفر والنفاق، وهي فتنة المنافقين، وفتنة أهل البدع، على حسب مراتب بدعهم.
وهذه الفتنة تنشأ تارة من فهم فاسد، وتارة من نقل كاذب. وتارة من غرض فاسد وهوى متبع، فهي من عمى في البصيرة وفساد في الإرادة. ولا ينجى من هذه الفتنة إلا تجريد اتباع الرسول، وتحكيمه في كل أمور الدين ظاهرة وباطنة.
أما النوع الثاني من الفتنة ففتنة الشهوات. وقد جمع سبحانه بين الفتنتين في قوله: {كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوالًا وَأَوْلاداً فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ}. أي تمتعوا بنصيبهم من الدنيا وشهواتها، والخلاق هو النصيب المقدر ثم قال: {وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا} [التوبة:69]. فهذا الخوض بالباطل، وهو الشبهات. فأشار سبحانه في هذه الآية إلى ما يحصل به فساد القلوب والأديان من الاستمتاع بالخلاق، والخوض بالباطل، لأن فساد الدين إما أن يكون باعتقاد الباطل والتكلم به أو بالعمل بخلاف العلم الصحيح. فالأول: هو البدع وما والاها، والثاني: فسق العمل. فالأول: فساد من جهة الشبهات والثاني: من جهة الشهوات.
وأصل كل فتنة إنما هو من تقديم الرأي على الشرع، والهوى على العقل.
فالأول: أصل فتنة الشبهة، والثاني: أصل فتنة الشهوة، ففتنة الشبهات تدفع باليقين، وفتنة الشهوات تدفع بالصبر ولذلك جعل سبحانه إمامة الدين منوطة بهذين الأمرين، فقال: {وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ} [السجدة:24]. فدل على أنه بالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين.
وبكمال العقل والصبر تدفع فتنة الشهوة، وبكمال البصيرة واليقين تدفع فتنة الشبهة" (إغاثة اللهفان).
الفرق بين الفتنة والاختبار والابتلاء:
الفرق بين الفتنة والاختبار: هو أن الفتنة أشد الاختبار وأبلغه، ويكون في الخير والشر ألا تسمع قوله تعالى: {أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ} [التغابن:15]. وقال تعالى: {لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً . لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ} [الجن:16، 17]. فجعل النعمة فتنة لأنه قصد بها المبالغة في اختبار المنعم عليه بها كالذهب إذا أريد المبالغة في تعرف حاله أدخل النار، واللّه تعالى لا يختبر العبد لتغيير حاله في الخير والشر وإنما المراد بذلك شدة التكليف.
أما الفرق بين الاختبار والابتلاء: فهو أن الابتلاء عادة لا يكون إلا بتحميل المكاره والمشاق. والاختبار يكون بذلك وبفعل المحبوب ألا ترى أنه يقال اختبره بالإنعام عليه ولا تقول ابتلاه بذلك ولا هو مبتلى بالنعمة كما قد يقال إنه مختبر بها ويجوز أن يقال: إن الابتلاء يقتضي استخراج ما عند المبتلى من الطاعة والمعصية، والاختبار يقتضي وقوع الخبر بحاله في ذلك، والخبر العلم الذي يقع بكنه الشيء وحقيقته فالفرق بينهما بين. والفتنة تأتي أيضا بمعنى الابتلاء كما في قوله تعالى: {الم . أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ . وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ} [العنكبوت:1-3].