وأول الإلهام الدليل على حب الله له أن يُلهمه الله النوايا التى بها يرفع الله قدره ويُعلى الله شأنه ويجعله على قدم حَبيبه ومُصطفاه صلوات ربى وتسليماته عليه ، عندما رجعَ رسولَ الله من غزوةِ تبوكَ ودَنا من المدينة قال: {إنَّ بالمدينةِ أقواماً ماسِرتم مَسِيراً ولاقَطعتُم وادياً إلا كانوا مَعَكم ، قالوا: يا رسولَ الله وهم بالمدينة ، قال: وهم بالمدينة حَبَسَهمُ العُذر}{1}
ولذلك أعطاهم الله بالنية ربما ما لم يأخذه نفر ممن مشى مع سيد البرية صلى الله عليه وسلم فى هذه السفرة لأنه ربما خرج مسافراً ويُسر فى قلبه النفاق ، والمنافقون كانوا يسافرون معه ويحضرون معه بل ويحاربون معه لكن ليس لهم عند الله أجر والمُخلصين الصادقين الذين بقوا فى المدينة نالوا الأجر بالنية ، فأعلمنا صلى الله عليه وسلم أن النيَّة هى التى عليها المُعوَّل
ولذلك يقول الإمام الشافعى رضي الله عنه: (إن حديث {إِنَّما الأعْمَالُ بالنِّيات، وإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِىءٍ ما نَوَى …. } ربع الدين} ، لأنه عليه الأساس من كل عمل ، {رُبَّ قَائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ قِيَامِهِ إلا السَّهَرُ وَرُبَّ صَائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ صِيَامِهِ إلا الْجُوعُ وَالْعَطَشُ}{2}
وقالوا له: يا رسول الله الرجل يجاهد للذكر والرجل يجاهد للغنيمة ، والرجل يجاهد حمية لقومه ، فمن فى سبيل الله؟ فقال: {مَنْ قَاتَلَ لِتكُونَ كَلِمَةُ الله هِيَ العُلْيَا فَهُوَ في سَبِيلِ الله}{3}
لذلك من قاتل للذكر أو للغنيمة أو حمية لقومه فليس له أجر، فالأجر على قدر النية مع أنه قاتل وحارب لكن الإمام الشافعى رضي الله عنه جعل ربع الدين على هذا الحديث الطيب: {إِنَّما الأعْمَالُ بالنِّيات .. } لأن النبى استخدم له أداة الحصر (إنما) ، ويقول صلى الله عليه وسلم فى حديث آخر: {نيَّةُ المؤمنِ خَيْرٌ مِنْ عَمَلِهِ}{4}
ويروى أن الله يوم القيامة يُظهر فضل النوايا فيأمر الملائكة بإحضار رجل معه أمثال الجبال من الأعمال الصالحة ، فيقول الله تعالى: {..أَنْتُمُ الْحَفَظَةُ عَلَى عَمَلِ عَبْدِي وَأَنَا الرَّقِيبُ عَلَى نَفْسِهِ ، إنَّهُ لَمْ يُرِدْنِي بِهذَا الْعَمَلِ ، وَأَرَادَ بِهِ غَيْرِي فَعَلَيْهِ لَعْنَتِي}{5}
هو لا يعُطى الأجر إلا إذا كان العمل خالصاً لذاته عز وجل ولذلك تجد الصالحين أول تدريب عملى يقومون به للسالكين والمريدين والمحبين هو أن يتمرن المريد والسالك على إخلاص القصد والنية فى كل حركة أو سكنة لله ، ومن لم يستطع ذلك فقولوا له: ليس لك فى هذا الطريق لا من قريب ولا من بعيد لأن الله قال فى قرآنه: {أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} الزمر3
وقال: {فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} غافر14
لابد من تحرى الإخلاص فى كل عمل والإخلاص أن تقصد وجه الله فى كل عمل ، حتى كان شيخى الشيخ محمد على سلامة رضي الله عنه عندما كان يمرننا على ذلك كان يدربنا إذا نزلت بلد للدعوة إلى الله ، يقول: يا بنى كل ما اشتهيت قبل أن تذهب إلى القوم الذين تدعوهم إلى الله حتى لا تميل نفسك إلى شئ مما عندهم وتكون الدعوة خالصة لوجه الله
ويقول: لو ذهب داعياً إلى الله إلى بلد وأفاض الله عليه من العلوم ومن الإلهامات ما لا حد له ، وبعد أن انتهى لم يدعُه أحد من أهل هذا البلدة إلى حتى تناول قدح شاى ، إذا تغير قلبه على أهل هذه البلد بسبب ذلك فإنه يحتاج إلى أن يُرد إلى دائرة الآداب ليتأدب فى رياض الصالحين وحتى حديث الناس ، فإن النفس تحب أن تُحَدِّث أو تُحَدَّث بما فعلت وما سمعت وما صنعت فكان يقول: {يا بنى اعمل ولا يهمك معرفة شيخك أنك تعمل ، لأنك تعمل لله لا لشيخك}
هذا الإخلاص كان أصحاب حضرة النبى يلاحظونه فى أدق المواطن فقد ورد أن الإمام علىّ رضي الله عنه وكرَّم الله وجهه طلب أحد الفرسان من الكافرين رجلاً للمبارزة فخرج له ، فأخذا يضربان حتى سقط فرسيهما تحتهما موتاً من شدة الضرب والكر والفر فترجلا وأخذا يضربان بعضاً بالسيوف حتى تكسرت سيوفهما
فاشتبكا مع المصارعة فحمله الإمام علىّ وجلد به الأرض وركع فوقه وأخرج خنجره ليذبحه فتفل الرجل فى وجهه ، فقام الإمام علىّ وتركه فتعجب الرجل وقال :لِمَ تركتنى بعد أن تمكنت منى؟ قال: كنت أقاتلك لله فلما تفلت فى وجهى خفت أن أقتلك انتقاماً لنفسى فيكون العمل غير خالص لربى ، قال: وهل تراقبون الله فى هذه المواطن؟ قال: وفى أدق منها
كانوا يراقبون الله فى هذه المواطن ، يراقبون أن تكون الحركات والسكنات فى كل زمان ومكان لا يرجون بها إلا رضاء الله وإلا وجه الله ثم بعد ذلك يقومون بها على هيئة حَبيب الله ومُصطفاه أى يتابعون الحَبيب صلوات ربى وتسليماته عليه فى هذا الحال
لكن لابد أن تكون النيَّة أولاً لله ، ولذلك كانت كل أحوالهم طاعات نومهم ذكر وجلوسهم ذكر وقيامهم ذكر وحديثهم ذكر ونظراتهم ذكر وإمداد أيمانهم إلى غيرهم ذكر ومشيهم بأقدامهم وسعيهم بأقدامهم إلى أى مكان ذكر وأى حركة بالجوارح الظاهرة معها نية باطنة
ولذلك أعمالهم كلها ذكر لله لأنهم استحضروا النوايا والطوايا بعد أن طهروا القلب لله وجعلوا الأعمال خالصة لله ، وفيهم يقول الله لحَبيبه ومُصطفاه: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً} الكهف28
{1} صحيح البخارى عن أبى هريرة رضى الله عنهما {2} مسند الشهاب عن ابن عمر. {3} مسند الإمام أحمد عن أبى موسى الأشعرى {4} فتح البارى وشرح الزرقانى {5} رواه ابن حبان والحاكم وغيرهما عن معاذ رضى الله عنه (الترغيب والترهيب)