لقبه عمر بن الخطاب بـ«سيدنا»، فإن ذُكر أبوبكر الصديق، قال: «أبوبكر سيدنا.. وأعتق سيّدنا»، ويقول عنه المفكر الإسلامي خالد محمد خالد في كتابه «رجال حول الرسول »، إنه «مؤذن الإسلام، ومُزعج الأصنام، إنه إحدى معجزات الإيمان والصدق، ومن معجزات الإسلام العظيم».
في أي دولة في العالم، تستطيع أن تسأل أي طفل مسلم: من مؤذن الرسول؟، سيجيبك على الفور: إنه بلال بن رباح ، العبدالذي كان سيّده يُعزبه بالحجارة ليرده عن دينه، فيقول: «أحد.. أحد».
كيف كان حال بلال بن رباح قبل الإسلام؟، يجيب خالد محمد خالد بقوله: «لم يكن أكثر من عبدرقيق، يرعى إبل سيّده على حفنات من التمر، إنه حبشي من أمة السود، جعلته مقاديره عبدًا لأناس من بني جُمح بمكة، حيث كانت أمه إحدى إمائهم وجواريهم، وكان يعيش عيشة الرقيق، تمضي أيامه متشابهة قاحلة، لا حق له في يومه، ولا أمل له في غده».
بدأت أنباء الرسول تنادي سمعه، حيث كان الناس في مكة يتناقلونها، وكان «بلال» يصغي إلى أحاديث أمية بن خلف، أحد شيوخ بني جُمح، القبيلة التي كان أحد عبيدها، وسمعه كثيرًا يتحدث عن «محمد» مع أصدقائه، وأفراد قبيلته.
يوضح «خالد»: «سمعهم بلال يتحدثون عن وفاء وأمانة محمد، وعن رجولته وخُلقه، وعن نزاهته ورجاحة عقله، وسمعهم يتهامسون بالأسباب التي تحملهم على تحديه وعداوته، وذات يوم أسلم بلال، وصمد لأقسى ألوان التعذيب صمود الأبرار العظام».
يرى «خالد»، أن «بلال» أعطى درسًا بليغا للذين في زمانه، وفي كل مان، للذين على دينه وعلى كل دين، درسًا فحواه أن «حرية الضمير وسيادته لا يُباعان بملء الأرض ذهبًا، ولا بملئها عذابًا»، فـ«الحبشي» وُضع عريانا فوق الجمر، على أن يرتد عن دينه، أو يزيف اقتناعه فأبى، لقد جعل الرسول من «العبدالمستضعف» أستاذًا للبشرية كلها في فن احترام الضمير، والدفاع عن حريته وسيادته.
ويتابع «خالد»: «يتكرر العذاب الوحشي كل يوم، حتى رقّت لـبلال من هول عذابه بعض قلوب جلاديه، فرضوا آخر الأمر أن يخلوا سبيله، على أن يذكر آلهتهم بخير ولو بكلمة واحدة تحفظ لهم كبرياءهم، ولا تتحدث قريش أنهم انهزموا صاغرين أمام صمود عبدهم واصراره، ولكن حتى هذه الكلمة الواحدة العابرة التي يستطيع أن يلقيها من وراء قلبه، ويشتري بها حياته نفسه، دون أن يفقد إيمانه، ويتخلى عن اقتناعه، رفض بلال أن يقولها، نعم لقد رفض أن يقولها، وصار يردد مكانها نشيده الخالد:أحد أحد».
وعن يوم تحريره، يقول صاحب «رجال حول الرسول »: «ذات يوم ذهب إليهم أبوبكر الصديق وهم يعذبونه، ويصيح بهم: أتقتلون رجلًا أن يقول ربي الله؟، ثم يصيح في أميّة بن خلف: خذ أكثر من ثمنه واتركه حرًا، لقد طابت نفسه وسعدت حين سمع أبا بكر يعرض ثمن تحريره إذ تمكن منهم اليأس، ولأنهم كانوا من التجار، فقد أدركوا أن بيعه أربح لهم من موته، باعوه لأبي بكر الذي حرّره، وأخذ بلال مكانه بين الرجال الأحرار».
بعد هجرة الرسول والمسلمين إلى المدينة، واستقرارهم بها، شرّع الرسول للصلاة أذانها، فمن يكون المؤذن للصلاة 5 مرات كل يوم؟، وتصدح عبر الأفق تكبيراته وتهليلاته؟، إنه «بلال» الذي صاح منذ 13 سنة والعذاب يهدّه ويشويه أن: «الله أحد..أحد».
يقول «خالد»: «وقع اختيار الرسول على بلال، ليكون أول مؤذن للإسلام، وبصوته النديّ الشجيّ مضى يملأ الأفئدة إيمانًا، والأسماع روعة وهو ينادى: الله أكبر.. الله أكبر».
عاش «بلال» مع الرسول، يشهد معه المشاهد كلها، يؤذن للصلاة، ويحيي ويحمي شعائر الدين الذي أخرجه من الظلمات إلى النور، ومن الرق إلى الحرية، وعلا شأن الإسلام، وعلا معه شأن المسلمين، وكان «بلال» يزداد كل يوم قربًا من قلب الرسول، الذي كان يصفه بأنه «رجل من أهل الجنة».
بعد وفاة الرسول، ذهب «بلال» إلى أبي بكر الصديق، يقول له: «يا خليفة رسول الله.. إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: أفضل عمل لمؤمن الجهاد في سبيل الله، فقال له أبوبكر: فما تشاء يا بلال؟، قال: أردت أن أرابط في سبيل الله حتى أموت، قال أبوبكر: ومن يؤذن لنا؟، قال بلال وعيناه تفيضان من الدمع: إني لا أؤذن لأحد بعد رسول الله، قال أبوبكر: بل ابق وأذن لنا يا بلال، قال بلال: إن كنت أعتقتني لأكون لك فليكن لك ما تريد، وإن كنت أعتقتني لله فدعني وما أعتقتني له، قال أبوبكر: بل أعتقتك لله يا بلال».
نذر «بلال» بقية حياته وعمره للمرابطة في ثغور الإسلام، مصممًا أن يلقى الله ورسوله وهو على خير عمل يُحبانه.
يحكي «خالد» قصة الآذان الأخير لـ«بلال»، قائلًا: «توسل المسلمون إلى عمر بن الخطاب، أن يحمل بلال على أن يؤذن لهم صلاة واحدة، ودعا أمير المؤمنين بلال، وقد حان وقت الصلاة ورجاه أن يؤذن لها، وصعد بلال وأذن، فبكى الصحابة الذين كانوا أدركوا رسول الله وبلال يؤذن له، بكوا كما لم يبكوا من قبل أبدًا، وكان عمر أشدهم بكاء».