الحساوي «تجريد» أم تجديد؟

الحساوي.. «تجريد» أم تجديد؟
خليجية الإبداع هو التميز، هو أن تسعى إلى أن يكون لك صوتك وتفردك، تقول بطلة رواية «تجريد» لهديل الحساوي الصادرة أخيراً:

«أن تفعل يعني أن تغير كل الأشياء السطحية، وأن تغرز سكينك عميقاً، عميقاً في وجه المعتاد والطبيعي، أن تحفر أخدوداً يتسع لكل الأمطار التي ستتساقط منك، فقط أبدأ بالتساؤل».

ونحن نتساءل عن ماهية «التجريد» في الرواية. أكان التجريد تجريباً؟ أم تعرية؟ أم تصوفاً؟ أم هذا كله؟

تراوغ هديل الحساوي بين إدخالنا إلى القول بتداخل الأجناس الأدبية في عملها وبين البَت في أن «تجريد» محاولة ناجحة في تجريب أسلوب روائي وتجديد الأدوات السردية.

تحكي الرواية حيرة المرأة التي تحيا حاضراً موجعاً مع حبيبها، يستدعي ذلك تذكرها التحذيرات التي صدرت إليها، فهي تندم ولا تندم، تترنم بأغنية فيروز: «تعا ولا تجي» في امتداد للحيرة من نداء أول إلى نداء ثان.

ولذا، فقد وعدت حبيبها بأنه لو عاد لن تصمت حتى يعرف ويرى ويفهم. هذا الحبيب المهمل قاتل بصمته لا يكلف نفسه عناء معرفة ما يحبه شريكه أو يبغضه «كعلاقتها بقوس قزح مثلا»، غير أن هذه الصورة لم تكن على وتيرة واحدة، إذ أصابها أحياناً ارتباك لنجد لديه رومانسية عالية.

لغة قصيدة النثر

من أبرز ملامح محاولة هديل التجريبية: شكل النص ولغته، فهو يشي سريعاً بتمايز هذه المحاولة بإحالته إلى شكل قصيدة النثر، وليس الشكل فحسب، بل اللغة الشعرية ذاتها التي تدفع بالعمل بقوة باتجاه شكل ومحتوى قصيدة النثر، فالكتابة لم تأت على شكل فقرات وإنما على شكل أسطر شعرية، غلبت لغتها أحياناً على الكاتبة، فسرقت منها السرد ومن ثم غيبت المتعة، فالحكم بإمساك هديل بتلابيب الحكاية تماماً وهي تشرع في بحر محفوف بالخطورة عند محاولتها التجديدية، ذلك حكم له ما ينقضه من النص ذاته؛ فهناك افتتان باللغة أنساها ما وعدت به في البداية بأن تقدم سرداً جديداً من دون إطالة.

تقول: الهدوء الهدوء، الهدوء والصمت، الصمت الصمت، الضوضاء والصمت، الصمت أقل؟ الضوضاء لا شيء يُسمع. صوتٌ مضى وضوضاء صامتة. الشاهد في الموضوع، الشاهد من كل الموضوع أن التطهر لا بد سيتم»، ومثله: حديث البطل إلى البطلة في ص 35، إذ يعد هذا الحديث رسالة شعرية بين نفسين، يضاف إلى ذلك بروز للانزياح والتكرار.

غياب المكان

ومن ملامح التجديد كذلك الغياب التام للمكان، ليس على مستوى اعتبار المكان بطلاً، بل أيضاً على مستوى الوصف الواقعي، وكأن هناك مكاناً آخر هو أجدر بأن يُتحدث عنه، هو العش الذي جمعهما أو هو قلب البطلة الذي غاصت فيه لتطرد حبيبها منه دونما جدوى.

يضاف إلى هذين الملمحين ملمح الجرأة التي نحسبها للكاتبة، وهي جرأة ليست جديدة على الوسط الثقافي الكويتي الذي ينعم بشيء منها حتى وإن هاجمتها بعض الدعاوى، فتتحايل هديل على هؤلاء وهي تستخدم ضمير المخاطب: «كانت كل العناصر الأربعة فيك تشدني، تغرقني ما رأيك ننتظر الفجر معاً قهوة وقبلة؟ المطر يغرقني: ملابسي شعري شفتاي عيناي نهداي يداي، وكذلك: اللمسات الصغيرة والحلم المشترك/ الارتعاشات الخجولة والسكون بعد الجدل». ومن أمثلة هذه الجرأة ما نجده في «قمة العشق»، حيث نجد وصفاً شاعرياً حالماً ولماحاً وجريئاً أيضاً للقائهما الحميمي الأول.

ملمح التصوف

إذن، فنحن أمام محاولة لا تني تعلن عن سعيها نحو الخروج من عباءة التقليد والرتابة، واتسعت تلك المحاولة لتشمل تقسيم العمل وعنونته، إذ نلحظ وجوداً لشخصيات في العناوين لا يتم تضمينها في صيرورة الحدث مثل: قالت لي صديقتي هاجر/ ما حكيت لسارة عنه أو غربة يا سارة.

التصوف لغة ورؤية: «الأصل في حياتي أنت.. أنت وجود كل الأشياء»،

مما يتسق وشاعرية النص ملمح التصوف بمستوييه «المصطلحي/ الرؤيوي». وهذا ما يبرر تساؤلنا عن أي تجريد تحكي الرواية أعن تجريد الذات الإنسانية؟ أم الذات الساردة؟ ومن ناحية ثانية أكان التجريد للرواية من الرتابة أم تجريدها من قيود تقاليدها؟

ونجد متعة القراءة في الروح والسباحة في تصوفها حين تقول: ما لن نفهمه أبداً عن الواحد والكثير وعن الجزء من كل ومن الكل أبعاض أجزاء لا تفترق وأن الواحد الكثير ممكن حدوثه».

صوتان أم صوت واحد؟

ومن المفردات الاصطلاحية: «الغيبيات التي أعتدناها، صومعتي وصومعتك، لو لم يدخل في عباءتك، أنت ادخلي في عباءته»، و«تصرخ في لا تتصوفي على حساب القهر المحيط» فتصوف البطلة أعطى الساردة فرصة كي تقدم لنا رؤيتها للكون والحياة وهي في رأيي الغاية العليا للقص وللرواية خاصة، فليست الرواية سرداً لأحداث وإنما غوص في مكنون النفس البشرية للخروج برؤية كاشفة للروح والحياة والعالم.

غير أن أخطر ما يؤخذ على هذا العمل هو تشابه الصوتين الأساسيين مما يساوي في الوعي بين البطلين، فصوت الرجل هو صوت الأنثى، هي مخلصته، وهو ملاكها الأسود، وكذا كلامها عن سدوم وعمورة وكلامه هو عن نيتشه، وعلى الرغم من التجديد الممتع في آلية الحوار، فإن تماهي المتحاورين في الوعي يصيب القارئ بالإرباك في الفصل بين الأصوات، ولا أحسب هذا إلا نتيجة إرباك الآلية ذاتها في ذهن هديل ولعلها تنضج.

تعليق واحد على “الحساوي «تجريد» أم تجديد؟”

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.