طبائعنا. ففريق منِّا، يراها جزءاً أصيلاً من الحياة، ويتعامل معها بواقعية، لتستمر بذلك سيرورة الحياة.
وفريقٌ آخر، يرى في مشاكلِه نهاية للعالم وتوقفاً للحياة. الفريق الأول يرى فرصة كامنة في كل إشكال ي
واجهه، والآخر يرى إشكالاً مُقلِقاً في أية فرصة تصادفه. والفرق بين الفريقين واضح، فالأول يعيش ا
لتفكير الإيجابي ويمارسه، أما الآخر فيقتات على التفكير السلبي، بل ويوزِّعه مجاناً. وتكمن المشكلة،
في نظري، إذا انتقلت حالة الفريق الآخر من «حالة أفراد»، إلى «أسلوب تفكير أُمَّة».
السلبيون لا يرون جمال الحياة، لذا هم أعداؤها! تقع أعينهم في كل مشهد على جوانب الضَعف والخلل
والنقص، ويهملون الجيِّد والجميل والمُبهِج في باقيه، فلا يرون إلا النصف الفارغ من كأس الماء،
وأشواك الوردة، وثقب قطعة الدونات، والغبار الذي يغطي عِذْق الرُّطَب.
إن جيشاً من السلبيين لا يمكن أن يربح معركة، ليس مع العدو، فهذا أمرٌ مفروغٌ منه، ولكن مع أنفسهم.
إن نظرتهم السوداوية تمنعهم من الرؤية والتقدم، لأن هزيمتهم النفسية تشكلت واكتملت قبل بدء المعركة.
يرى خبراء الإدارة أن الشخص السلبي يشكل خطراً بالغاً على أي فريق عمل، لذا يجب على القائد
تغيير سلوكه، أو تحييد دوره، أو إبعاده إن لم ينفع أي من الأسلوبين الأولين، لأن دوره الهدام المتمثل في
استمراره في بث الرسائل السلبية داخل وخارج محيطه يجلب اليأس والإحباط ويثبط باقي أفراد الفريق
ويجعلهم متقاعسين عن القيام بأدوارهم وتحقيق أهدافهم، مما يجلب الإخفاق التام إلى الجميع في نهاية
المطاف. إن فأراً واحداً قادرٌ على إغراق سفينة ضخمة، إذا لم ينتبه أيُ من ملاحيها إلى خطَرِه.
لم نسمع قط أن شخصاً سلبياً تجشم الصعاب من أجل اكتشاف أو ابتكار أو اختراع أو إنجاز أمرٍ ما، فلا
إنتاج ولا عمل يؤديه في ظل سلبية التفكير التي تقوده إلى عمى البصيرة، والتقوقع في أغوار الخوف
والشك والحيرة. لقد اشتعلت تاريخياً أشد الصراعات والحروب عندما توقفت أمم عن التفكير، وأعار
أفرادها سمعهم إلى السلبيين وأفكارهم السيئة، مما هيأ البيئة لنمو الطغاة وقيام الدكتاتوريات. الطاغية ما
هو إلا مفكر سلبي، ترعرع في بيئة سلبية سيئة، يرى السيئ، ويتوقع الأسوأ، ولا يتقن إلا لغة السوء
التي من مفرداتها العنف والقمع والكبت والتسلط والاستبداد. تفكيره السلبي وتشاؤمه يقودانه إلى تدمير
نفسه، قبل أن يُدمِّر أمته.. واسألوا التاريخ عن هتلر وتشاوتشيسكو وصدَّام، وقبلهم كبيرهم فرعون الذي
قال لقومه ذات عزةٍ آثمة: (مَا أُرِيكُمْ إِلا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلا سَبِيلَ الرَّشَادِ)!
إن الانغلاق داخل شرنقة فكرة أو فِكَر مُضلِّلَة هو أساس السلوك السلبي برمته لدى البشر، فَتَبنِّي العقل
الباطن (اللاوعي) مجموعة من التصورات، سلبية كانت أم إيجابية، يقود بشكلٍ أو بآخر إلى تحققها على
أرض الواقع، كما تشير إلى ذلك دراسات وبحوث علم النفس، مصداقاً للقول المأثور «تفاءلوا بالخير
تجدوه». فمن يؤمن بنجاح سعيه، ويناضل من أجل ذلك، يتحقق له في الغالب ما يريد. ومن يحفر الحُفر
في طريقه، ويضع أمامه العراقيل والعقبات، وتهيئ له نفسه ما يشتهي من الأعذار والمبررات، لا
يتجاوز عادةً حدود تفكيره السلبي، بل يقع في شر أفكاره.
كيف لنا بشعب يريد الحياة، وبعض خطبائنا يكثر من الأسف على حال الأمة.. وبعض معلمينا يكثر من
اللوم والتعنيف والتوبيخ.. وبعض نسائنا يكثرن من التذمر والتبرم.. وبعض شبابنا يُسرِف في إظهار الملل
والضَجَر.. وبعض مفكرينا يجتر مفردات التشاؤم والإحباط! أما قال عليه الصلاة والسلام: بشِّروا ولا
تنفِّروا، ويسِّروا ولا تعسِّروا!
والخلاصة، لا نريد متشائمين منفِّرين، ولا متفائلين مغرقين في السذاجة، ولكن نريد من يرى الواقع
بشمولية، ويتعامل معه بإيجابية وعقلانية، حيث يبني ولا يهدم، ويُبشِّر ولا يُنفِّر، وييسِّر ولا يُعسِّر.
وقد قيل ان متشائماً مبحراً كان يتذمر باستمرار من اتجاه الريح وتأثيرها على قاربِه، وكان رفيقه المتفائل
جداً يتوقع أن يتغير اتجاهها في أية لحظة، أما ثالثهم الواقعي فعمِل بهدوء على تعديل الأشرعة!
أليس الأجدر بنا أن نعدَّل الأشرعة من أن نلعن الريح؟